حين تجرَّعت المرأة أمرَّ الكؤوس
في زمن كان فيه صوت المرأة غير مسموع، كان من الطبيعي أن تقل مكانتها في المجتمع. لقد كانت المرأة اليمنية حتى القرن الماضي في مرتبة دون الرجل، ومكانة أقل منه بكثير، ربما يُعزى ذلك الأمر إلى طبيعة المجتمع الذي يستحوذ فيه الرجال على جميع الفرص، ولا تكاد المرأة تحظى إلا بالحد الأدنى من كل شيء. في ظروف كهذه، لم يكن عجبًا أن تجد المرأة نفسها مُحاطةً بالمشكلات، سواءً داخل المنزل أو خارجه، ولعل أسوأ تلك المشكلات ما يتعلق بزواج النساء القاصرات من الرجال كبار السن، لا لشيء سوى جني الكثير من الفلوس. وهذا ما دفع الشاعر محمد المقطري، لكتابة قصيدة (أمر الكؤوس)، التي قام بتلحينها الفنان عبد الباسط عبسي، في محاولةٍ لمعالجة هذه المشكلة المجتمعية الخطيرة، ومناصرة قضية المرأة اليمنية.
يقول الكاتب محمد الشرعبي، وهو صحافي يمني وصانع محتوى مرئي استقصائي حائز على جائزة صحافة الطفل وعضو شبكة الصحافة الإنسانية ومدرب في صحافة السلام، في مقالٍ كتبه على مجلة المدنية، عن دور الفن اليمني في مناصرة قضايا المرأة اليمنية:
“جسَّدت الأغنيات اليمنية معاناة المرأة اليمنية وعبرت عن مشكلة اجتماعية يعاني منها المجتمع، وهي زواج القاصرات والفتيات الصغيرات من كبار السن، مقابل الفلوس (البيس) التي تبيع النفوس. وهنا نشير إلى أغنية شهيرة من كلمات الشاعر محمد أحمد المقطري وأداء الفنان القدير عبد الباسط عبسي مع الفنانة القديرة أمل كعدل وهي بعنوان (أمر الكؤوس)”.
“تشرح الأغنية على لسان الصغيرة التي زوجت غصباً عنها بزوج يكبرها عقوداً تعاطي الأهل معها كسلعة تباع، بمعنى أنها مجردة من أي رأي في تحديد مصيرها المستقبلي في الزواج. فالعرف في كثير من الأحوال يعد طلب موافقة الفتاة أو المرأة على الزواج عيباً وتجاوزاً للعادات. وهكذا تصبح الفتاة منصاعة لأوامر الأسرة بغض النظر عن رغبتها. ويشكل الفقر عنصراً أساسياً في تزويج القاصرات طمعاً في مهورهن التي تسهم في إعانة أسرهن”.
نالت هذه الأغنية صدًى كبيرًا منذ ثمانينيات القرن الماضي، خاطبت الناس بلحن قريب من أغانيهم الشعبية الشجية، مثلت حالة رفض لمثل هذه الممارسات الظالمة بحق الفتيات والنساء، فهي تتناول قضيتين، أولها، زواج القاصرات وما يمثل ذلك من مشاكل صحية ونفسية للفتاة، والقضية الثانية تحويل المرأة إلى سلعة تباع لمن يمتلك المال، لشايب يخطف أحلام الفتاة ويحولها إلى جحيم نفسي لا يطاق، وهو ما يترتب عليه الكثير من المعاناة والوجع والحزن. يقول الشاعر محمد المقطري في مطلع القصيدة:
وقالـــت البنـــــــــــــــت يُمّــــــــــــــــه ظلمــــــــني أبي
واهدر شبابي لشيبه ألا بالذهب فاز بي
وآني بقلبي عصافيــــــــــــــر الهـــــــــــوى تختبي
تشتاق روضة صِبا جنة صبــــــــــــية وصبي
وفي هذا المطلع حوارًا تخاطب فيه الفتاة أمها تشكو إليها ظلم أبيه، وظلم ذوي القُرب أعظم دون شك. ومما يبين براعة الشاعر المقطري في توصيل معنى القصيدة، استخدامه لجملة (ألا بالذهب فاز بي) وهنا تبدو المرأة كأسًا لا إنسانا، يفوز به من يدفع أكثر قدر من الفلوس، أو يأتي بالذهب، حتى وإن عجوزًا هرما. ويواصل الشاعر تجسيد الشكوى على لسان الفتاة:
لمـــــــــــــــــو أبي باعنــــــــــــي يُمّــــــــــه لدنــيا العذاب
وسيَّب أزهار عمري تظمأ وتشرب سراب
واني صبيـــــة على درب المحــــبة شــــــــــــــــــــباب
وازهار نيسان بس يُمّه تُهــــــــدى لشـــــــــــــــاب
وهنا يتجدد الخطاب الصادر من الفتاة إلى أمها، تسألها مجددًا عن بيعها إلى دنيا العذاب، وربما لا يكون العذاب هنا بمفهومه الحقيقي، وإنما بالمعاناة التي ستعيشها صبية صغيرة مع رجل عجوز. ثم تحاول تذكير أمها بأنها صبية أشبه بزهرة نيسان، والزهر لا يُهدى إلا لشاب، لا لعجوز كهذا، ولكنه الطمع. وفي نهاية القصيدة يحاول الشاعر المقطري توصل صرخة تقولها المرأة بملء فمها، تقول الفتاة من فرط الحزن والهم:
إلى الجحيم البيس اللي تبيــــع النفـــــــــــوس
تكفــــــن الشائب الفاني بأحـــــلى عــــــروس
وفي وجوه الفوارس ترسم ظلال العبوس
تسقي البنات النواعس يُمّه أمر الكؤوس
نعم، نعم، إلى الجحيم (البيس) طالما أنها تبيع النفوس، وإلى مزبلة التاريخ سينتهي المطاف بأي إنسان أسهم في معاناة الإنسان، فالمجد لا يكون إلا لمن جعل الحياة أسهل على الآخرين.