السجون اليمنية | حق الأمومة المفقود
خلف قضبان السجن المركزي بمحافظة إب، وفي زنزانة باردة ومظلمة، تجلس حاكمة أحمد(اسم مستعار)، تحتضن بطنها الحامل لتشعر بنبضات جنينها الأول، الذي لم ير النور بعد، تخاف حاكمة على مستقبله ومصيره، فهو سيولد في مكان لا يمنحه أي حقوق أو كرامة وتتساءل كيف ستتمكن من إنجابه وحمايته وتغذيته في ظروف لا تتوفر فيها أبسط مقومات الحياة. تستمع حاكمة لأصوتاً مؤلمة ومرعبة من النساء اللواتي سبق وعانين من الولادة أو المرض في هذا المكان، مما يزيد من رعبها وقلقها.
تقول حاكمة أنها عانت في الشهر الأول من سجنها من مضاعفات الحمل وصلت حد تعرضها للإعياء والسقوط المفاجئ، وأن إدارة السجن لم تحرك ساكنًا في سبيل توفير طبيب مختص أو ادوية مساعدة لها، وتضيف انها تعاني الآن من اضطراب نفسي واكتئاب بسبب إجراءات المحاكمة والسجن في فترة حملها، و انها تشكو من مضاعفات الحمل وسوء التغذية منذ دخولها إلى السجن، و قالت أن الوضع الصحي والغذائي والنفسي هنا لا يساعد وتتمنى ان يحضى مولودها القادم بالرعاية الصحية اللازمة.
فجوة بين النص والتطبيق
حاكمة 27 عامًا، السجينة بتهمة جنائية، دخلت السجن المركزي في شهرها الثالث من الحمل وهي واحدة من العشرات اللواتي يضطررن إلى تكبد عناء الحمل والولادة أو الظروف الصحية الطارئة في السجون اليمنية ومراكز الاحتجاز في ظل إهمال وتحديات صحية ونفسية، و قصور تنفيذي للقانون اليمني رقم 26 لسنة 2003 بشأن تنظيم السجون، والتي نصت فيه المادة رقم 27 بأنه ” يجب أن توفر للمرأة الحامل قبل الوضع وأثناء الوضع وبعده العناية والرعاية الطبية اللازمة وفقًا لتوصيات الطبيب المختص ” ونص القانون على ضرورة منح المسجونة الحامل أو الأم الغذاء الصحي المقرر لها، غير أن ما يحصل في الواقع يخالف تمامًا ما ورد في المواد القانونية.
يقول عبدالرحمن الزبيب المحامي الحقوقي المختص بقضايا السجون، بأن القانون اليمني أكد بوجوبيه توفير الرعاية الصحية للسجينة خلال فترة الحمل والولادة والرضاعة، وأضاف رغم وضوح النص القانوني غير أن الواقع غيب تلك المواد القانونية في جميع السجون ومراكز الاحتجاز في محافظات الجمهورية، وقال أن معاناة السجينة الحامل في ظل انعدام الرعاية والغذاء المناسب تصيب الكثير منهن بمشاكل صحية ونفسية يصعب تجاوزها لاحقا، وأضاف أن البعض منهن يحصلن على رعاية من أسرهن، غير أن هذه الرعاية غير كافية، وأشار إلى أن معاناة السجينة الحامل التي تكون ضحية لجرائم الشرف تتضاعف في ظل تخلي الأسرة والمجتمع عنها مما يحرمها الحصول على الإعانات المقدمة من الأسرة.
الحقوقي الزبيب ومن خلال زياراته للسجون ومراكز الاحتجاز أو الدراسات التي اُسندت إليه كشف عن عدم وجود أي اهتمام يذكر بالأمور الصحية والغذائية وحتى النفسية وان الحرب ساهمت في زيادة هذه المعاناة، مما يجعل السجن مكانًا يستحيل فيه الحمل والولادة، وقال أنه يجب وبحسب القانون أن توفر الجهات المعنية طبيبة مختصة للقيام بالفحوصات الدورية للسجينات وخصوصا الحوامل، إضافة إلى توفير الغذاء والدواء المناسب خلال فترة الحمل والولادة وتوفير المستلزمات الطبية والأدوية الطارئة، وقال هذه الأمور كفلها القانون وهي “حق إنساني يجب توفيره للسجينة خلال فترة الحمل والولادة”.
إصابات ومضاعفات صحية، داخل مراكز الاحتجاز
في مطلع العام 2021 قضت صفاء الأمير 24 سنة، إثر سكتة قلبية في أحد مراكز الاحتجاز بمحافظة مأرب،مثلها العشرات ممن تعرضن لإصابات ومضاعفات صحية أدت إلى الوفاة أو الإصابة بأمراض مزمنة وخطيرة، نتيجة غياب الأطباء والأدوية والإسعافات الأولية داخل مراكز الاحتجاز وغياب الرعاية الطبية اللازمة للسجينات بعد ذلك، وتنوعت الإصابات والمضاعفات بين الإجهاض وتعسر الولادة والإعياء الشديد وسوء التغذية أثناء الحمل والولادة، والإصابة بأمراض الربو والجهاز التنفسي والأمراض الجلدية والجلطات فيما يخص السجينات بشكل عام، يأتي ذلك إلى جانب غياب تام للإحصائيات والمختصين ومرافق الطب النفسي داخل مراكز الاحتجاز.
تقول فاطمة قاسم * إنها دخلت إصلاحية السجن المركزي في أمانة العاصمة، وكانت حينها في شهرها السابع من الحمل، وأنها لم تحصل على أي رعاية طبية أو تغذية مخصصة أو زيارة واستشارة طبية، طوال فترة حملها، وقالت أنها تعرضت خلال هذه الفترة لإصابات وأمراض لم تلقى نتيجتها على أي رعاية طبية، وأضافت فاطمة أنها وعند ولادتها ظلت في حالة طلق طوال فترة الليل دون أي مساعدة، لتلد طفلها عند الفجر بمساعدة السجينات، وقالت أنها أصيبت بناسور ولادي وسقوط للمثانة نتيجة تعسر الولادة وعدم حصولها على الرعاية الطبية اللازمة، ” كنت أشوف الموت، أثناء الولادة، وتمنيت اني أساسا ما حملت ولا تزوجت من الإهانة اللي حصلت لي” وأشارت فاطمة إلى عدم حصولها على أي وأدوية علاجية أو مستلزمات طبية “حتى الفوط الصحية لي ولطفلي لم استطيع الحصول عليها” وقالت ان طفلها لم يحصل على أدوية أو مستلزمات طوال فترة حضانته.
وبحسب مؤسسة السجين الوطنية، فأن الحرب ساهمت في تردي وزيادة معاناة السجينات، في السجون ومراكز الاحتجاز، وان الأوضاع الصحية والنفسية للسجينات خلال هذه الفترة تأثرت بشكل ملحوظ، يقول فضل محرز مدير عام المؤسسة، أن أبرز الإشكاليات التي تواجه السجينات تتمثل في نقص الرعاية الصحية والتغذية الكافية للسجينات وخصوصًا الحوامل والمرضعات، وان السجينة الحامل غير قادرة بسبب التكاليف وغياب الدعم على توفير الاحتياجات الأساسية مثل التغذية المناسبة والأدوية والفرش والبطانيات والملابس الداخلية والفوط الصحية وغيرها، وأضاف محرز بأن السجون لا توفر حاليًا مرافق صحية مجهزة بأطباء متخصصين في أمراض النساء والولادة، ” ناهيك عن وجود فجوة بين القوانين والتشريعات، والتطبيق الفعلي لها”
مضاعفات طبية أدت للإجهاض
رصد معد التحقيق 39 حالة ولادة وعملية طارئة حدثت في 17 سجن ومركز احتجاز خلال الفترة ( 2021 – 2023 ) ، وبحسب هذه الحالات فإن حالة واحدة من كل 13 حالة استطاعت توفير الحد الأدنى من الرعاية الصحية اللازمة أثناء وبعد الولادة وفي فترة الحمل، ويرجع ذلك إلى المساعدات التي حصلن عليها من أسرهن، وباقي الحالات لم يحصلن على أي رعاية طبية تذكر خلال فترة الحمل والولادة.
الحالات اللواتي تم رصدها لم تحصل بعد الولادة على رعاية صحية أو تغذية مناسبة أو مستلزمات طبية لهن أو لأطفالهن، والبعض منهن تعرضن لاكتئاب ما بعد الولادة، وبحسب عينة الرصد فإن بعض الحالات استطاعت الحصول على بعض المستلزمات الضرورية والتكميلية، من خلال رجال الأعمال والمنظمات الخيرية، في سجون المدن الرئيسية، غير أن الحصول على هذه المستلزمات لا يتم بصورة منتظمة .
وبحسب الحالات فإن الطبيبة المختصة قامت بزيارة السجن مرة واحدة فقط خلال سبعة أشهر، وأن الحالات لم يحصلن على أي أدوية تكميلية أو علاجية خلال فترة الحمل وبعد الولادة وأن الرعاية أثناء الولادة كانت دون الحد الأدنى، وبحسب الرصد فإن خمس حالات من أصل تسع وثلاثين حالة، تعرضت لمضاعفات طبية أثناء الحمل أدت إلى تعرضها للإجهاض.
مرافق غير مهيأة للاستخدام
تعتبر السجون اليمنية ومراكز الاحتجاز مؤسسات غير مؤهلة بالمرافق الصحية والنفسية بحسب مقابلات معد التقرير مع منظمات مجتمع مدني تهتم بقضايا السجون، وحالات لسجينات حوامل أو سبق لهن التعرض لظروف صحية أو نفسية استدعت نقلهن لتلقي العلاج في مراكز خارجية.
وبحسب معهد السلام الأمريكي ووفقًا لبيانات 37 سجن ومركز احتجاز في ست محافظات يمنية، فإن العيادات والمرافق النفسية لا تتوفر في هذه المراكز التي شملتها الدراسة، وفيما يخص المرافق الصحية فإن هناك 10 مرافق صحية فقط، وهي غير مهيأة للاستخدام الصحي، وعلى الرغم من وجود هذه العيادات إلا أنها غير مزوده بموظفين أو أدوات تشغيلية قادرة على القيام بمهامها، واظهر التقرير إصابة ما يزيد عن 40 % من السجينات بأمراض وأوبئة بسبب ضعف العملية الصحية داخل السجون ومراكز الاحتجاز، ونوه التقرير إلى الفجوة بين القانون والواقع فيما يخص الرعاية الصحية للحوامل داخل السجون اليمنية.
وبحسب رصد معد التقرير فأن وزارة الداخلية ممثلة بمصلحة السجون و وزارة الصحة العامة والسكان لم تقم بالتنسيق أو إتاحة زيارات لطبيبة مختصة لمتابعة المسجونات أثناء فترة الحمل، وأن هناك زيارة واحدة لطبيب عام تتم بشكل سنوي ولا تفي بغرض متابعة الحمل أو مضاعفاته، وان الوحدات الصحية المرفقة في بعض السجون لا تقدم سوى خدمات الاسعافات الاولية. وتكشف عملية الرصد عدم توفر اي وحدات خاصة في السجون اليمنية ومراكز الاحتجاز يمكن للمرأة أثناء الولادة أو بعدها الاقامة فيها والحصول على بعض الخصوصية لها ولطفلها.
معد التحقيق تواصل مع مصلحة السجون في أمانة العاصمة وإدارات السجون ومراكز الاحتجاز في المحافظات الرئيسية للحصول على الرد، حول أوضاع السجينات الحوامل والمعالجات المتخذة فيما يخص الأوضاع الصحية والنفسية وجوانب التغذية المرتبطة بالسجينات الحوامل والمرضعات، غير أنه وحتى لحظة نشر هذا التحقيق لم يحصل على الرد او الاستجابة للاستفسارات ..
تستقبل حاكمة مولودها الأول بعد أقل من اربعة أشهر ولازالت ملايين الاسئلة تتردد عليها، كيف يمكنها تحمل مخاضها الأول دون دعم أسرتها لها و دون حصولها على الرعاية الصحية والنفسية اللازمة، وتنظر فاطمة لمولودها بحسرة، في ظل ظروف تجعل من حصولها على حقوقها نوعًا من الترف الغير موجود داخل السجون ومراكز الاحتجاز اليمنية.
( تم إنتاج هذا التحقيق بدعم من مشروع غرفة أخبار الجندر اليمنية الذي تنفذه مؤسسة ميديا ساك للإعلام والتنمية )