كاذية .. امرأة منتجة في مجتمع أنهكه الصراع
في رحلة البقاء على قيد الكرامة، تستيقظُ كاذية مبكرا للذهاب إلى العمل بعد أن فقدت زوجها وملاذها الآمن الذي كانت تلتجئ إليه. السيدة كاذية (60 عاما) لم تُرَ ضعيفة أو مكسورة رغم الحمل الثقيل وكل المعاناة في حياتها. منذ أكثر من عشرين عاما تجلس كاذية في سوق السَّدَّة بمحافظة إبّ تبيع “الشَّذاب”، وهو نوع من الرياحين تضعه المرأة النفساء إلى جوارها لحمايتها وحماية مولودها من العين، بحسب اعتقادات سائدة في كثير من المناطق اليمنية.
تحمل المسؤولية
بعينين غائرتين ويدين مرتعشتين تتلمّس الحاجة كاذية الشَّذاب أمامها، وتقول: “قضيتُ سنين عمري بقرب سَلّة الشذاب. أحلامي وذكرياتي وشبابي كلها في هذا المكان، حتى استوطنَ المرضُ جسدي، ولم تعد قدماي تقوى على حملي إلا بصعوبة. شهور مضت وأعوام كالجبال منذ وفاة زوجي. تحملت المسؤولية وأنا أراقب نمو أطفالي بقربي لحظة بلحظة. أذهب إلى السوق صباحا بعد أن يذهب أطفالي إلى مدارسهم، وأعود في الظهيرة قبل عودتهم وقلبي يلهث لهم بالدعاء”.
وتضيف كاذية وهي أم لأربعة أبناء ذكور: “سخّرتُ حياتي لأبنائي، حتى تحقّق حلمي فيهم، وقد عانيتُ كثيرا، وتعرّض أطفالي للتنمر من زملائهم في المدرسة؛ إذ كانوا ينادونهم بـ(ابن بائعة الشذاب)، وكان أبنائي يتوسّلون لي أن أنقلهم إلى مدرسة أخرى خارج حارتهم حتى لا يعرفوهم”.
التعرض للعنف والاستهزاء
الحاجة فاطمة (50 عاما) أيضا تعمل في بيع البيض البلدي إلى جوار السيدة كاذية، وتذكر أنها تعمل منذ سنوات، وكانت تعمل بمفردها بجوار كاذية، ولكن بعد أوضاع الحرب الراهنة، أصبح هناك كثير من النسوة اللائي يعملن في بيع الخبز واللحوح.
وتقول الحاجّة فاطمة: “لا يوجد لديّ أبناء، وكنتُ أعيش على راتب زوجي المتقاعد، وبعد اندلاع الحرب وانقطاع الرواتب، قررتُ أن أبيع الحناء، ولكني خسرتُ، فلم أكن أميّز النوع الجيد من الرديء، ثم عملت في بيع البيض البلدي، وإلى الآن أعيش منه وأشتري العلاج لزوجي المُسنّ”.
وتؤكد كاذية أن ممارسة العمل في البداية لم يكن بالشيء السهل؛ لأنها كانت الوحيدة التي تبيع في تلك الأيام في سوق يمتلئ بالرجال المتسوّقين، وكان من يشتري منها يسألها: ألا يوجد لديك أب أو أخ يبيع بدلا عنك؟! حتى إنه في بعض المرات كانت تتعرّض للعنف اللفظي من بعض الشباب، وتتعرض للاستهزاء من البعض الآخر، والبعض يقول لها: “ما لقيتِ إلا الشذاب لتبيعيه؟!”. وتضيف كاذية: “لم آبه لكلام الناس، فقد كان همّي الأول والأخير أن أنهي عملي وأعود سريعا إلى المنزل”.
صعوبات وتحديات
المختصة الاجتماعية مريم العقيلي تقول: “عادة ما يواجه عمل المرأة اليمنية كثيرا من الصعوبات والتحديات، ابتداء من المجتمع وسلطته الذكورية ونظرتهم بحذر لعمل المرأة، وانتهاء بالحرب وعدم الأمان في هذه الفترة، وذلك عند خروجها من منزلها وذهابها للعمل؛ فقد لحظنا أن بعض النساء كُنّ خارج المنزل للعمل، ويحدث قصف شديد فيصبنَ بالذعر على أطفالهن الموجودين في المنزل وحدهم، والمرأة منذ القدم تناضل من أجل تحقيق ذاتها، ولكن ما زال الإطار الاجتماعي خانقا ومكبلا لها”.
وتضيف العقيلي: “العمل هو تحدٍ كبير تقوم به المرأة؛ فالعاملة تواجه عددا من الضغوطات في أثناء تأديتها لعملها، وكذلك ضغوطات منزلية؛ فهي تعمل خارج المنزل وداخله، وتربي الأبناء وتعلّمهم، وتتحمل كثيرا من المشاقّ؛ فهي زوجة وأم ومربية وعاملة في نفس الوقت. تعمل مثل الآلة ليلَ نهارَ، وهي تستحق التقدير والاهتمام”.
من جهتها، تذكر هناء البرعي (30 عاما) أنها كانت تعمل أستاذة، ولكن بعد انقطاع راتبها أخذت دورات في الكوافير (تزيين النساء)، وهكذا تغلّبت على وضعها المعيشي الصعب. ورغم أن أهلها كانوا رافضين لهذا العمل، تقبّلوه عندما رأوا إصرارها وتفانيها في العمل.
تقول السيدة كاذية في حديثها: “قامت القيامة عليّ عندما قررت العمل وبيع الشذاب والرياحين، وأصرّ أهلي على أخذي وإرجاع أطفالي إلى جدهم والد أبيهم ليتكفل بهم، ولكني رفضتُ أن يفرّقوا بيني وبين أطفالي، وقرّرتُ تحمل مسؤوليتهم، ورغم أن كل أهلي تخلّوا عني وانقطعوا عن زيارتي، خرجت بيقين تامّ للعمل، وكلي أمل بأن الله هو الرازق، وأنه لن يتخلى عني وعن أطفالي. وبإصراري، قاومت كل الظروف، وربيت أطفالي أحسن تربية”.
لم تعد المرأة تأبه لنظرة المجتمع السلبية
يقول الخبير الاقتصادي أمين العريقي: “كانت المرأة العاملة تشكل 6% من العمالة اليمنية، بحسب تقرير منظمة العمل الدولية، وقد أثرت الحرب على النساء العاملات أكثر من الرجال بسبب تضرّر القطاع الخاص، ولكن فتحت الحرب مهامَّ جديدة للنساء، منها العمل في المهن الخاصة، مثل بيع الريحان أو البيض أو تجارة الملابس أو الإكسسوارات”.
ويضيف العريقي: “نتيجة لانقطاع المرتبات والوضع الاقتصادي الصعب، خرجت المرأة للبحث عن عمل ولبدء مشاريعها الخاصة، ففي هذه الفترة، هناك كثير من الدورات التي تُقام شهريا لدعم تنمية المرأة اليمنية، مثل دورات صناعة العطور والبخور والخياطة والكوافير والتسويق وكثير من الدورات المختلفة لتأهيل المرأة، خصوصا أن هناك نسبة كبيرة من النساء غير متعلمات أو لم يكملن تعليمهن، فبدأن مشاريع بسيطة لبيع المستلزمات المختلفة، واندمجن في سوق العمل لتحسين وضعهن الاقتصادي، رغم كل الظروف المختلفة التي تعيق عمل المرأة في اليمن، ونلحظ أن المرأة بسبب الوضع الاقتصادي الصعب لم تعد تأبه بنظرة المجتمع السلبية، واقتحمت جميع المجالات وأصبحت منتجة مهمة في مجتمع أنهكه الصراع”.