تنفذها فتيات على قمم جبال عمران ومنحدراتها الشاهقة
خرجت بلقيس مِن منزل زوجها في إحدى قرى منطقة الأشمور بريف محافظة عمران، لتجلب مياه الشرب مِن عَين ماء تقع على جبل شاهق وطريق ضيّقة شديدة الوعورة، لكنها سقطت من ذلك الشاهق أمام أعين والدتها التي ظلت تراقب بعجز وهلع النهاية المأساوية لحياة بلقيس من مكانها في أسفل المنحدر، لتفارق ابنتها الحياة مع جنين في بطنها على الفور، وذلك بعد أشهر قليلة من زواجها.
كانت هذه الحادثة الأليمة منذ سنوات خلت، لكنها لا تزال ماثلة في عقول آلاف الفتيات في المنطقة، وهنّ يجدن أنفسهن بشكل يومي مُجبرات على خوض طرق شديدة الوعورة، وسط ممرات ضيّقة ومنحدرات مخيفة، تعلو بمئات الأمتار عن مستوى سطح الأرض، في رحلة بحثٍ مضنية عن مياه الشرب التي توفّرها ينابيع وعيون الماء المتفجّرة من الصخور الصمّاء، حيث تقلّ في مواسم الجفاف، لتنحصر على بضع عيون وبِرَك وسدود صغيرة بدائية، ولتلبي احتياجات نحو 150 ألف نسمة ينتشرون في قُرى وعُزل مناطق الأشمورالمترامية الأطراف والواقعة على قِمم الجبال، من دون أن تصل إليهم أي من مشاريع المياه سواء من الجهات الرسمية، أم من منظمات العمل الخيري والإنساني.
مخاطر دائمة
مهمة البحث الدائم عن مياه صالحة للشرب تُوكلغالبا مسؤوليتها إلى الفتيات نظرا لانشغال الأولاد بأعمال الزراعة وغيرها من الأعمال الشاقّة في تلك الأرياف ذات التضاريس الصعبة. مهمة فتيات “ريف عمران“ لجلب الماء، كما يوضحن في أحاديثهن لـ”غرفة أخبار الجندر“، ليست يسيرة ولا خالية من المخاطر على الحياة والسلامة الشخصية على غرار الأرياف في مناطق تهامة، بل تنطوي على كثير من المخاطر، سواء السقوط من شاهق،أم من الانهيارات الصخرية المفاجئة التي تزداد فيمواسم الأمطار، وتذكر فاطمة، وهي فتاة في الخامسة عشرة من عمرها، أن شقيقتها زينب التي تكبرها بثلاثة أعوام تعرّضت لكَسر في ساقها قبل أسابيع، بسبب انهيار صخرة على طريق جلب الماء مِن النبع، ولا تزال قعيدة الفراش حتى اللحظة.وتضيف، وهي من قرية الشاهل،
أن هناك كثيرا من الفتيات يتعرّضن مِن حين لآخر لإصابات مختلفة في هذه الطريق الضيّقة التي تقع على جبال شاهقة.
وتتكوّن منطقة الأشمور الواقعة على بُعد نحو خمسين كيلومترا غربي مدينة عمران من عدة قرى وعُزل، أبرزها قرى ضلاع الأشمور وبيت النقيب وبيت العسرة وبيت النقيب والشاهل وحلملموالمضواحي وعرشان ، وغيرها من القرى والعُزل المترامية الأطراف التي يسكنها نحو 150 ألف نسمة تقريبا، وتبدو تلك المناطق والعُزل متقاربة جغرافيا، لكن التنقّل من منطقة إلى أخرى يتطلّب ساعات، بسبب وعورة الطرق والمنحدرات الشاهقة وغياب الطرق المعبّدة، فيما توجد ينابيع الماء على مسافات بعيدة من أماكن تجمّعات السكّان، وكل ذلك ينعكس سلبا على مهمة الحصول على مياه الشرب والاستعمال اليومي. ويقول الحاج صالح علي، وهو شيخ جاوز السبعين من العمر يسكن قرية الحجير، إن ينابيع الماء كانت قبل عشرات السنين تقريبا على بعد عشرات الأمتار من كل قرية، ومع مرور الأيام، جفّت عيون الماء وتلاشت،ولم يعد يوجد منها حاليا غير عدد قليل، وغالبيتها في رؤوس الجبال وسط شقوق صخرية ضيّقة،الأمر الذي جعل من الاستفادة منها مسألة في غاية الصعوبة. ويشير الحاج صالح إلى أن جلبَالماء في تلك القرى بات أشبه بالمغامرة اليومية التي يجب على الأسر والعائلات دفع أطفالهن ذكورا وإناثا لخوضها، وكما يقول المثل العربي الشهير“مكرهٌ أخاك، لا بطل”.
مواسم الأمطار والجفاف
في مواسم الأمطار التي صارت غزيرة في السنوات القليلة الماضية، تتفجر العيون والينابيع في كل مكان تقريبا، وتقلّ الصعوبات الناجمة عن السفر الطويل إلى قمم الجبال، لكن كما تقول السيدة صفية، وهي من سكان قرية الفرع عزلة بني مالك مديرية بني صريم، تظهر مشكلة أخرى؛إذ تكثر حوادث الانهيارات الصخرية والتشقّقات الأرضية، وتحدث بسببها كثير من الإصابات في أوساط الباحثات عن قطرات الماء. أما في مواسم الجفاف، فتختفي كثير من الينابيع ليضطرّالسكان، وفي طليعتهم فتيات القرى، إلى سلوك طرق خطيرة، والبقاء لساعات في الطوابير الطويلة، ومنهنّ من يطول انتظاره مِن ساعات الفجر الأولى إلى ساعات متأخّرة من المساء، لينجم عن ذلك مزيد من المخاطر التي تحيط برحلة البحث عن الماء الصالح للشرب، خصوصا أن المياه التي تتجمّع في برك وخزانات طبيعية في موسم المطر، يصبح معظمها بعد مرور أشهر غير صالحة للشرب، وتكاد لا تُستعمل في شؤون أخرى، فيما يضطر البعض، كما يقول طبيب المنطقة الدكتور أحمد عباس، إلى شربها في بعض الأحيان، ما ينجم عن ذلك انتشار كثير من الأمراض بين السكان.
بالتناول الإعلامي لهذه المعضلة التي يعاني منها عشرات الآلاف من مواطني الأرياف بمحافظة عمران، يأمل السكان المحليون أن تلقى معاناتهم آذانًا صاغية من السلطات الرسمية ومنظمات المجتمع المدني ومؤسسات العمل الإنساني، وأن يسارعوا إلى العمل لإنهائها ووضع حدٍّ لمأساة يومية عاشها الناس هناك منذ عشرات السنين، وما زالوا يكتوون بجحيمها حتى هذه اللحظة.