نساء الصيادين على الساحل الغربي.. حياة بطعم الخوف
مريم الطويلية، سيدة تجاوزت الستين من العمر، ذهب أولادها الثلاثة في رحلة اصطياد اعتيادية قبل أكثر من عشر سنوات، لكنهم لم يعودوا أبدا.
لم تفقد الثكلى”الطويلية” التي تسكن قرية ساحلية صغيرة تُسمى “مُوشِج” جنوب مدينة الخوخة على الساحل الغربي لليمن يوما الأمل في عودتهم، وتحرص على الجلوس على الشاطئ كل مساء، حتى غروب الشمس، تُخاطب البحر، وتسأله بدموعها أن يُعيد إليها أولادها.
كانت رحلة الصياد علي عامر ابن السيدة مريم مع شقيقيه يحيى وسالم برفقة عشرة صيادين آخرين على قارب تقليدي صغير الحجم في موسم الرياح، التي يسميها الصيادون المحليون “ريح الأزيْب” والتي تبدأ في كانون الأول وتشتد حدتها في آذار، واختفى أثرهم منذ ذلك الوقت، لكن هذه الرياح الموسمية، والأعاصير الغاضبة التي يشهدها البحر من وقت لآخر، لم تعد المُهدد الوحيد لحياة الصيادين في الأعماق، بل ان المخاطر المُحيطة بهم باتت كثيرة ومُتعددة، خصوصا مع اندلاع الحرب في اليمن في العام 2015،حيث تَحوّل البحر بعد ذلك بأسابيع إلى ساحة مواجهة بين الأطراف المتحاربة ما زالت متواصلة إلى اليوم.
وأصبحت نساء الصيادين على امتداد السواحل اليمنية البالغة الفي كيلو متر، يعشن قلقا دائما ومتزايدا مع كل رحلة اصطياد يقوم بها ابناؤهن وأزواجهن إلى أعماق البحر، غير أن معاناة صيادي الساحل الغربي كما يؤكد مختصون، يظلون الأكثر معاناة بسبب الأوضاع الحالية التي تعيشها البلاد.. ويقول ماجد عبده وهو شيخ الصيادين بمحافظة الحديدة بأن مئات الصيادين تعرضوا للقتل أو لجروح مختلفة بسبب الحرب خلال السنوات الماضية كما تم تدمير قواربهم، وهو ما انعكس سلبا على حياة عشرات الالاف من الأسر في مجتمعات الصيادين على ساحل البحر الأحمر.
وتوضح النساء في مجتمعات وقرى الصيادين بأن كل رحلة يقوم بها أزواجهن وأبناؤهن أصبحت في ظل هذه الأوضاع بمثابة مغامرة غير محمودة العواقب وتقول سعيدة وهي سيدة في العقد الرابع من العمر من أبناء قرية القَطَابا التابعة لمديرية الخوخة بأن زوجها وابنيها اليافعين يعملون في مهنة صيد الأسماك، ويغيبون في كل رحلة اصطياد ما بين أسبوع إلى عشرة أيام, لتعيش طيلة هذه الفترة رُعبا دائما قبل أن يزول مؤقتا مع عودتهم, وسرعان ما يعود الخوف بمجرد ذهابهم إلى البحر مُجددا، لتتحول حياتها إلى دوامة خوف متواصلة ، لا تكاد تتوقف حتى تبدأ من جديد.
مخاوف سعيدة الدائمة كما تقول تعود إلى حوادث الاعتداءات المُتكررة التي تعرض ويتعرض لها الصيادون، موضحة بأن عشرة صيادين في قريتها التي يعتمد سكانها البالغ عددهم نحو عشرة الاف نسمة، في معيشتهم على صيد الاسماك، قد قُتلوا بنيران الأطراف المتصارعة خلال الشهور الأولى من الحرب، ناهيك عن تعرُض العشرات من الصيادين لعمليات احتجاز من قبل قوات بحرية تابعة لدول مجاورة.
وتشير احصائيات رسمية صادرة عن السلطات المختصة في صنعاء إلى مقتل 271صيادا والعشرات من الجرحى خلال ست سنوات من الحرب من الصيادين على سواحل البحر الأحمر فقط، إضافة إلى اختطاف وسجن وتعذيب 1749صيادا خلال الفترة ذاتها، وأن العشرات منهم لايزالون رهن الاحتجاز لدى مختلف الأطراف حتى اللحظة.
ومع استمرار الحرب تتفاقم معاناة النساء وتتصاعد مخاوفهن على مصير ذويهن وعلى مصادر معيشتهن وحياة أطفالهن.. وتقول سلامة وهي سيدة في العقد الثالث من العمر من قرية الكَدَح الساحلية -على بعد أربعة كيلو مترات إلى الشمال من مدينة الخوخة- بأنها فقدت زوجها واثنين من أشقائها بعد أن تعرّض قاربهم لهجوم من طائرة حربية في جزيرة عُقْبان في العام 2016، لكن والدها وعمها لا يزالان يمارسان مهنة الاصطياد رغم المخاوف الدائمة التي تخيم على أسرتها، إذ لا سبيل أمامهما الا مواصلة الصيد باعتباره المصدر الوحيد لعيشهم
وتعرض العشرات من قوارب الصيد التقليدية في الساحل الغربي للتدمير الكلي.. وتؤكد تقارير رسمية صادرة عن السلطات المختصة بالحديدة بأن عدد القوارب المُدمّرة بشكل كلي في سواحل محافظتي الحديدة وحجة بلغت 250 قاربًا بكلفة إجمالية تُقدّر بأكثر من مليوني دولار امريكي.. ويقول سالم صدّيق المسئول بالمكتب التنفيذي للاتحاد التعاوني السمكي، بأن الصيادين اليمنيين وعائلاتهم وخاصة في سواحل البحر الأحمر المُمتدة من منطقة ميدي شمالا حتى باب المندب جنوبا، دفعوا ويدفعون حتى اليوم أثمانا باهضة من حياتهم وحياة نسائهم وأطفالهم جراء النزاع المتواصل.
ويضيف صدّيق وهو من أبناء مدينة الخوخة، التي تُعد من أهم مراكز تجمُعات صيادي الساحل الغربي، بأن أكثر من مليوني نسمة من أبناء المدن والقرى الساحلية على امتداد الشريط الساحلي للبحر الأحمر تعرضوا لأضرار مباشرة على مستوى معيشتهم جراء النزاع المتواصل.
ولا يكاد يمر يوم، أو أسبوع على أكبر تقدير، دون أن يتناهى إلى مسامع النساء في قرى وأماكن تجمعات الصيادين، أنباء عن تعرُض قوارب الاصطياد التقليدية لهجوم مُسلّح أو احتجاز أو تعذيب، ما جعلهن يعشن حياة بطعم الخوف الذي لا ينتهي، وجُل ما بتْن يتمنينه وقف الحرب ووضع حد للرُعب المُخيّم على حياتهن.