متسولات سائلة صنعاء.. البحث عن بقايا حياة
أُصيبت بجروح في قدمها بعد أن داستها سيارة وهي جالسة القرفصاء أثناء تسولها برفقة صغيرها في زاوية مظلمة على “السائلة” التي تخترق وسط صنعاء من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال.
السيدة فاطمة في العقد الثالث من العمر، وقد أجبرتها الظروف المعيشية الصعبة، كما تقول، على التسوّل منذ الصباح الباكر إلى أوقات متأخرة، برفقة طفلها أحمد ذي الخمسة أعوام.
وتفاقمت في السنوات الأخيرة ظاهرة التسول في العاصمة صنعاء ومعظم محافظات البلاد التي تعيش واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية، وفقًا لتأكيدات منظمة الأمم المتحدة، بفعل الحرب وتداعياتها على الاقتصاد، بالإضافة إلى توقف صرف المرتبات وارتفاع معدلات البطالة في أوساط المجتمع اليمني.
وتوضح فاطمة، وهي نازحة إلى صنعاء من محافظة الحديدة، في حديثها لـ”غرفة أخبار الجندر”، أنها استأنفت مهنتها مؤخرًا بعد أن ظلت قعيدة الفراش عقب الحادث الذي تعرضت له، لمدة أسبوعين.
وبالرغم من حديث السلطات في صنعاء عن مباشرتها إجراءات عملية لمكافحة ظاهرة التسول، تظل أعداد الملتحقين بالمهنة آخذة في الارتفاع.
ويقول برلمانيون ومختصون في الشؤون الاجتماعية: إن حديث السلطات في صنعاء عن إنشاء مراكز خاصة لمكافحة الظاهرة، ليس حلًا عمليًا، وستبقى تلك المراكز المنتظرة عاجزة مع غياب الحلول الواقعية، ويوضح عبده محمد ردمان، عضو مجلس النواب، أن الحل يكمن في تعزيز مبادئ التكافل الاجتماعي، وإيجاد معالجات بخصوص صرف المرتبات وتوفير البدائل المناسبة بإيجاد فرص عمل واستيعاب الآلاف ممن فقدوا وظائفهم.
هم إضافي
حديث السلطات في صنعاء عن تدشين إجراءاتها لمكافحة التسول، أضاف همًّا إلى نفوس المتسوّلين، وباتوا يخشون، كما تقول فاطمة، من التعرُّض لملاحقات واعتقالات تعسفية، وحرمانها والآلاف ممن يمارسون المهنة من مصدر عيشهم الوحيد.
وغيرَ بعيد من موقع فاطمة وصغيرها أمامَ فتحة في طريق السائلة بمنطقة الجراف شمالي العاصمة، تقف السيدة لطيفة (29 عامًا) مع طفلتها وداد (6 سنوات)، بالقرب من أعمال إنشاءات في مشروع جسر “الجِراف” المتعثّر، وهي تظلّ واقفة على قدميها في انتظار صدقات العابرين على سياراتهم؛ إذ يضطر سائقو السيارات إلى تهدئة السرعة بسبب بقايا أعمدة الجسر غير المكتمل، وحينها تتمكن من مدّ يدها إليهم للحصول على الصدقة.
ولا تخفي لطيفة مخاوفها، مثل مئات من المتسولات، من هذه الإجراءات التي تلوكها ألسنة المسؤولين حول مكافحة ظاهرة التسول والقضاء عليها، من دون أن تكون هناك، كما تقول، حلول مناسبة تضمن لهن البقاء على قيد الحياة، وبالتالي أصبح ذلك، وفق تعبيرها، همًّا إضافيًا يضاف إلى المصاعب الجمة التي تواجه حياتهن.
إحصائيات
وصلت أعداد المتسولين في اليمن، وفقًا لدراسة أجراها مركز الدراسات الاجتماعية وبحوث العمل في صنعاء، قبل بضعة أشهر، إلى مليون ونصف المليون، وأغلبهم من النساء والأطفال، لكن باحثين اجتماعيين يشكّكون في هذا الرقم، ويؤكدون أن العدد يفوق ما توصلت إليه الدراسة بكثير.
يقول اختصاصي علم النفس الاجتماعي محمد سليمان: إن آلاف النساء والأطفال يلتحقون بقافلة التسول كل يوم تقريبًا، بسبب الأوضاع المتأزمة التي تعيشها البلاد، وإن ما أضافته الحرب إلى قائمة المتسولين خلال السنوات السبع الماضية، ربما يفوق أعداد المتسولين لعقود طويلة.
وتشير تقديرات المجلس الأعلى للأمومة والطفولة إلى أن هناك 10 آلاف طفل وطفلة يمارسون التسول في أمانة العاصمة، إلى جانب آلاف النسوة؛ إذ تزايدت أعدادهم بصورة جلية في الآونة الأخيرة، وتوضّح دراسة مركز الدراسات الاجتماعية وبحوث العمل أن هناك نوعين من الدوافع التي تقف وراء اتساع نطاق التسول؛ الأول يكمن في الحاجة بسبب الفقر الدائم وعدم القدرة على العمل وغياب مصادر الدخل الكافية، والثاني يكون بالإكراه الأسري أو لحساب جهة منظمة مقابل مبالغ محددة، إلى جانب الظروف المعيشية الصعبة وانتشار الفقر والبطالة وارتفاع الأسعار، وغلاء المعيشة. ومع ذلك تظل الأرقام والإحصاءات عن أعداد المتسولين تقريبية غيرَ معبّرة عن الحجم المتعاظم للظاهرة.
إجراءات ولكن!
يقول المسؤولون في صنعاء إن هناك توجهات جادة من قبل الحكومة التابعة لأنصار الله (الحوثيين) من أجل مكافحة الظاهرة، وقد شُكلت لجنة وزارية أُنيطت بها عدة مهام في سبيل الوصول إلى معالجات وحلول، غير أن أحد أعضاء هذه اللجنة الوزارية (فضّل عدم الكشف عن هويته) أكد أن المقترحات التي تُناقش منذ أكثر من عام على طريق مكافحة الظاهرة، تظلّ مفتقرة إلى الواقعية في كثير من الأحيان، وهناك فجوة كبيرة بين ما يُطرح وبين الإمكانات المتاحة في الظرف الحالي.
وهكذا تظل الظاهرة تتمدّد في المجتمع من دون حلول مناسبة، فيما المتسوّلات في طريق السائلة وغيرها من المناطق يواجهن مع أطفالهن مخاطر جمّة في رحلة البحث عن بقايا حياة.