بدأت الحكاية عندما تلقّت “ع. ص” (24 عامًا) طلب صداقة من شاب في موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”. في البداية كان كلّ شيء عاديًا، علاقة طبيعية بين أصدقاء، لكن مع مضي الأيام تطوّرت العلاقة، وأصبحت تذهب باتجاه الجانب العاطفي، إلى أن وقعت الضحية في حب الشاب. تقول “ع. ص”: “كنتُ أنتظر بشغف الحديث معه. كان يستمع لهمومي، وأخبره عن كل تفاصيل حياتي، وهو يشاركني الأمر نفسه، حتى صارحته ذات يوم أنني أحبه، وبادلني المشاعر نفسها، ووعدني بالزواج”.
بدأ الشاب يلمح للفتاة برغبته في علاقة افتراضية، أحبّت الأخيرة الفكرة، وقررت مجاراته، واتفقا على التواصل عبر الصور هذه المرة بعد أن كانت كل المحادثات السابقة كتابية فقط، للأسف وقعت “ع. ص” في المحظور. تقول بحسرة: “كنتُ أصوّر كل شيء ولا أدري ما الذي أقوم به، وهو كان يفعل مثلي تمامًا، انتهت تلك الليلة وانتظرتُ موعدنا في اليوم التالي، وبالفعل كان على الموعد، وأرسلَ لي فيديو مسجلًا لكل ما كنتُ أقوم به. لم أستوعب ما أرسله لي في البداية، وشعرتُ بحالة ارتباك. بعدها دخلت في صدمة، واستوعبت ما حدث”.
طلب الشاب من الفتاة العشرينية دفع نصف مليون ريال مقابل عدم إرسال تلك الصور إلى أصدقائها على الفيسبوك ونشرها على نطاق واسع، “تمنيتُ في تلك اللحظة لو أنني أموت على الفور ولا أعيش هذه الأوقات العصيبة، فأنا معروفة بأخلاقي لدى عامة الناس، وفضيحة مثل هذه سأخسر مقابلها الكثير، فقررت الاستجابة لمطالبه من دون إخبار أحد من عائلتي. اعتقدتُ بعدها أني تخلّصت من هذا الكابوس المرعب، ولم يمر سوى 20 يومًا حتى عاد وأرسل الصور نفسها مجددًا وطلب مبلغا آخر”.
“تمنيتُ في تلك اللحظة لو أنني أموت على الفور ولا أعيش هذه الأوقات العصيبة، فأنا معروفة بأخلاقي لدى عامة الناس، وفضيحة مثل هذه سأخسر مقابلها الكثير، فقررت الاستجابة لمطالبه من دون إخبار أحد من عائلتي. اعتقدتُ بعدها أني تخلّصت من هذا الكابوس المرعب، ولم يمر سوى 20 يومًا حتى عاد وأرسل الصور نفسها مجددًا وطلب مبلغا آخر”.
أيقنت “ع. ص” حينها أن الأمر لم ينته، وأنها أمام دوامة ستطول من الابتزاز، لكن الخوف من المواجهة والفضيحة دفعتها إلى الاستجابة. “لم أعد أعرف طعم النوم، خسرتُ من وزني كثيرا لأنني لم أعد قادرة على تناول الطعام والشراب. كنت دائمًا في حالة قلق وخوف من الفضيحة التي قد تُنشر تفاصيلها في أي لحظة. كنتُ أبحث عن طرق للخلاص من هذا الكابوس، وفي النهاية عرضتُ مشكلتي على إحدى صديقاتي، ولم أجرؤ أن أطرحها على عائلتي. بعد أيام اقتنعت برأي صديقتي بضرورة إبلاغ أحد المتخصصين في المجال الرقمي بما حدث معي، وبالفعل طرحتُ قضيتي بالكامل، وتعهد أن يعالج الأمر بسريّة تامة، وبعد أيام قليلة أُوقف ذلك الشاب، وحُوسب على جريمته بحقي”.
أزمة اجتماعية
قصة “ع. ص” التي وقعت ضحية الابتزاز الإلكتروني لم تكن الوحيدة، فكثير من القصص المشابهة وقع ضحيتها فتيات من جميع أنحاء المحافظات؛ إذ يمارِس كثير من العصابات المنظمة أو الأفراد عمليات الابتزاز باستغلال صور الفتيات التي استطاعوا الوصول إليها بالولوج إلى حساباتهن الشخصية أو باختراق هواتفهن وأجهزة الكمبيوتر المحمولة الخاصة بهن وغير ذلك من الأساليب التي تمكنوا بها من الحصول على صور ومقاطع مصورة لحفلات نسائية جرى تبادلها بين الفتيات مع قريباتهن أو صديقاتهن.
أنتجت تصاعد حالات الابتزاز الإلكتروني جملة مشكلات وأزمات اجتماعية وأمنية، بحسب خبراء رقميين وحقوقيين؛ إذ تتسبّب مثل هذه العمليات بحوادث وجرائم تصل إلى القتل والخطف والتشويه الجسدي وأزمات اجتماعية. وما يزيد الأمر تعقيدًا أن هناك عددا كبيرا من النساء لا يستطعن اللجوء للأجهزة الأمنية بسبب الخوف من الأهل أو لأسباب تتعلّق بطبيعة المجتمع التقليدي والمحافظ التي تتبنى قيما تحمّل الضحية مسؤولية التحرش والابتزاز، وهو ما يدفع كثيرات إلى الإحجام عن الإبلاغ، في الوقت الذي تغيب فيه الإحصاءات الرسمية الخاصة بهذا النوع من الجرائم.
ما هو الابتزاز الإلكتروني؟
الابتزاز هو المساومة والتهديد. أما الابتزاز الإلكتروني فيعني لغويًا “عملية مساومة تتم بوسيلة إلكترونية أو عبر الإنترنت”، ويُعدّ المراهقون الفئة الأكثر استهدافًا وتضررًا في هذه الجرائم. وتتعدّد أنواع الابتزاز الإلكتروني، فهناك الابتزاز المادي بطلب مبالغ مالية من الضحية في مقابل عدم فضحه وإفشاء أسراره، والابتزاز الجنسي بإجبار الضحية على تقديم خدمات جنسية أو ارتكاب أفعال جنسية، وابتزاز المنفعة بإرغام الضحية على القيام بخدمات أخرى غير مشروعة أو مشروعة مقابل عدم بث صور أو بيانات خاصة، وخصوصا الأشخاص ذوي المناصب الحساسة وصانعي القرار.
ويؤدي الابتزاز الإلكتروني إلى كثير من الأضرار الجسيمة على حياة الأفراد، من بينها الميل إلى العزلة، وعدم الرغبة في التعامل مع الآخرين، وتقويض الثقة بالنفس، وعدم الشعور بالأمان، والإصابة بالاضطرابات النفسية، كالقلق والتوتر والخوف، وجنون الشك والاضطهاد، لكن النتيجة الأخطر هي اتجاه الضحية لأذى النفس بمحاولة الانتحار، نتيجة للضغط الشديد والخوف من الفضيحة والتهديد الذي تقع الضحية فريسة له، خاصة أن أغلب الضحايا من المراهقين.
ضحايا الابتزاز
تتحدث إحدى ضحايا الابتزاز التي بدأت حكايتها بعلاقة عاطفية أرادت قطعها، لكن شريكها رفض قطع العلاقة وهدّدها بنشر صورها إذا رفضت الاستمرار معه، “الموضوع كان صعبًا، وكنتُ أمرّ بحالة نفسية سيئة، ولم أكن أعرف ماذا عليّ أن أفعل، سوى أن أذهب إلى الانتحار، ولكن حصلتُ على مساعدة من خبير رقمي”.
“الموضوع كان صعبًا، وكنتُ أمرّ بحالة نفسية سيئة، ولم أكن أعرف ماذا عليّ أن أفعل، سوى أن أذهب إلى الانتحار، ولكن حصلتُ على مساعدة من خبير رقمي
الأمر نفسه تكرر مع “هـ” (28 عامًا)، تعرضت قبل عامين للابتزاز والتهديد بنشر صورها إلكترونيًا، وإرسالها لأسرتها من قبل أحد الفنيين بمحل لبيع وتصليح الهواتف المحمولة، فقد أصاب هاتفها عطلٌ مفاجئ، فذهبت لإصلاحه بذلك المحل، وكانت فيه صور لها ولعائلتها، وأخبرها الفني أن إصلاحه سوف يأخذ وقتا كما أنه مشغول حاليا، ويمكن أن تتركه لأيام وبعد فترة مِن استلام الجهاز وردتها رسائل وسائط من رقم جوال البائع تحمل صورا لها لتبدأ قصة الابتزاز.
ومن دون سابق إنذار، استيقظت ضحية أخرى، على رسالة مِن صديقتها تخبرها أن صورًا لها منتشرة عبر أحد المواقع، مرسلة لها رابط هذا الموقع، لتفتحه الفتاة وتسجّل بياناتها مِن دون وعي أو تخوين وتبدأ أسوأ كوابيسها، فقد اختُرق هاتفها، وفُبركت محادثة تسيء لها، لتبدأ مرحلة الابتزاز والتهديد.
أسباب الابتزاز
يُرجع المختصون في علم الاجتماع تزايد ظاهرة الابتزاز الإلكتروني إلى الفراغ الاجتماعي، والتفكك الأسري، وضعف الرقابة الأسرية على الأبناء، والفقر، وضعف الوازع الديني، والعقد النفسية، والاضطرابات لدى البعض، وشعور البعض بالاستفزاز مما ينشره الآخرون من أمور إيجابية، مع سهولة إخفاء هوية أي معتدٍ في الإنترنت، وصعوبة ملاحقته قانونيًا أو توقيفه، وخوف الضحايا من الفضيحة وتفضيلهم الصمت والانصياع للمجرم.
وقالت الدكتورة رانيا خالد أستاذ مساعد علم اجتماع بجامعة عدن ومدربة واختصاصية في الدعم النفس: “بين فترات متقاربة نسمع أو نقرأ عن مشكلة من مشكلات الابتزاز التي للأسف تحدث نتيجة قصور في حماية الخصوصيات والثقافة الإلكترونية لحماية الحساب أو نتيجة سرقة الصور من الجوالات أو الفلاشة التي قد تحتوي معلومات مهمة”، ويؤدي الابتزاز إلى أثر نفسي بليغ لدى النساء بالذات فيتعرضن للضغط النفسي والعصبي والخوف الشديد الذي يؤدي إلى تدهور وتدني في الصحة النفسية والاكتئاب الشديد، وفي أحيان كثيرة يؤدي إلى دفع الضحية للانتحار.
وتدعو اختصاصية الدعم النفسي إلى معالجة عاجلة لضحايا الابتزاز من النساء وعدم إهمالهن صحيًا وعرضهن على طبيب نفسي مختص يشخّص حالتها ويرشدها إلى توجيهات طبية نفسية تناسب حالتها وصرف عقاقير إن دعت الحاجة، إضافة إلى مختص في الدعم النفسي يساعدها على التجاوز واستعادة ثقتها بنفسها.
خبير أمن رقمي
يعتبر الخبير في الأمن الرقمي المهندس فهمي الباحث أن كل قضايا الابتزاز مهمة بالنسبة لفريقه، ويمكن أن تؤدّي إلى نتائج كارثية، ويحذر مِن تحول هذه الممارسات من أعمال فردية إلى عصابات منظمة أصبحت تقتات على قضايا الابتزاز وتجاوزت جغرافية اليمن إلى دول أخرى في المنطقة. “نحن نعمل قدر الإمكان على إزالة المحتوى الضار من الإنترنت، ومن ثم توجيه الأشخاص المتضررين للجوء إلى الجهات الأمنية، وهناك عدد من القضايا حُلت وديًا”.
“نحن نعمل قدر الإمكان على إزالة المحتوى الضار من الإنترنت، ومن ثم توجيه الأشخاص المتضررين للجوء إلى الجهات الأمنية، وهناك عدد من القضايا حُلت وديًا”
ويذكر الباحث بعض الأمثلة لقضايا الابتزاز التي تلقّى فريقه بلاغات عنها مع الحفاظ على الخصوصية، “هناك امرأة تلقت رسائل تهديد من المبتز بأن لديه صورا وفيديوهات خاصة لها، لجأت إلى مجموعه خاصة بالفتيات في الواتساب، قدّموا لها رقم شخص مِن المفترض أن يساعدها، تواصلت معه، فطلب منها كلمة المرور لحسابها لكي يقوم بتأمينه، بحسب قوله، وطلب منها تفعيل مزامنة الصور في هاتفها، وبهذه الطريقة تمكّن الشخص من الحصول على صورها بعد المزامنة، ومن ثم ابتزازها لاحقًا، ليتضح أنه هو نفسه بأرقام متعددة كان مشتركا في المجموعة الخاصة بالبنات، وهو مَن أرسل التهديد، وهو الذي كان من المفترض أن يساعدها. قُمنا بتأمين الحسابات لاحقًا وجمع الأدلة ومساعدة الضحية للوصول للجهات الأمنية، وقُبض على المبتز”.
ويؤكّد الخبير الرقمي مقولة “الوقاية خير من العلاج”، وأن هناك كثيرا من القضايا بدأت بسبب قلة الوعي باستخدام التكنولوجيا وتأمين الحسابات والأجهزة الشخصية، محذرًا من مشاركة أي معلومات أو بيانات شخصية في شبكات التواصل أو عند الحديث مع الغرباء، وداعيًا إلى تأمين الحسابات بكلمات مرور قوية وتفعيل التحقق الثنائي، واستخدام التطبيقات الآمنة فقط في التواصل، والعمل على رفع مستوى الوعي في السلامة الرقمية.
ويروي الباحث كيف تتم أغلب عمليات الاختراقات، قائلًا: “أولًا يجب أن أوضح أنه ليس كل قضايا الابتزاز يكون الاختراق سببها، ولكن هناك عدد لا بأس به من الاختراقات تتم بسرقة كلمات المرور، وغالبا ما تكون كلمات مرور ضعيفة كرقم الهاتف مثلا، أو عبر روابط التصيّد الاحتيالي، ولكن معظم الحالات تقع باستدراج الضحايا بطرق مختلفة مثل قصص الحب الوهمية التي يتخلّلها وعود بالزواج، فيحصل تبادل الصور، وتتحوّل إلى ابتزاز لاحقًا، كذلك باستدراج الضحايا لإرسال بيانات شخصية لغرض تقديم مساعدات إنسانية”.
غياب القانون
يعزو مراقبون ومختصون ارتفاع معدلات الابتزاز في اليمن إلى غياب التشريعات والقوانين الرادعة التي مِن شأنها وضع حدّ لتلك الجرائم، ورغم المعدلات المتصاعدة، لا يوجد في البلاد أي قانون يخصّ جرائم “الابتزاز الإلكتروني” بما يتماشى مع ما أفرزته التقنيات من مخاطر، فلا يمكن ملاحقتها بقوانين شُرّعت قبل العصر الإلكتروني. ترى الناشطة الحقوقية هدى الصراري أن الحرب وانعدام آليات الحماية وتعطّل القوانين وانقسام القضاء أسهمت في تفشي هذه الظاهرة.
وتنوّه الصراري: “نحن اليوم بحاجة إلى سنّ قوانين صارمة وعقوبات كبيرة لمكافحة الابتزاز والجرائم الإلكترونية؛ إذ تُظهر المؤشرات والوقائع تعرض كثير من الضحايا النساء والفتيات في مجتمعنا اليمني لابتزاز وتهديد وتحريض وسبّ وقذف، إضافة إلى رفع الوعي المجتمعي، وهي مسؤولية تضطلع بها منظمات المجتمع المدني”.
“نحن اليوم بحاجة إلى سنّ قوانين صارمة وعقوبات كبيرة لمكافحة الابتزاز والجرائم الإلكترونية؛ إذ تُظهر المؤشرات والوقائع تعرض كثير من الضحايا النساء والفتيات في مجتمعنا اليمني لابتزاز وتهديد وتحريض وسبّ وقذف، إضافة إلى رفع الوعي المجتمعي، وهي مسؤولية تضطلع بها منظمات المجتمع المدني”
وتتعامل السلطات معه بوصفه إدانة تتناسب مع المادتين 313 و254 من قانون العقوبات اليمني. وتنصّ المادة 313 على أنه “يُعاقب بالحبس مدّة لا تتجاوز 5 سنوات، أو بالغرامة، كلّ من يبعث قصدًا في نفس شخص الخوف من الإضرار به أو بأي شخص آخر يهمه أمره”. أما المادة 254 فتنص على أنه “يُعاقب بالحبس مدّة لا تزيد على سنة أو بالغرامة كل مَن هدّد غيره بأي وسيلة بارتكاب جريمة أو بعمل ضار أو بعمل يقع عليه أو على زوجه أو أحد أقاربه حتى الدرجة الرابعة، إذا كان من شأن التهديد أن يُحدث فزعا لدى مَن وقع عليه”.
تحميل الضحية المسؤولية
يعزو كثير المشكلة إلى عدم تفهم المجتمع والأسر لبناتهم، وهي ثغرة يستخدمها المبتزون للإيقاع بهن، لأنهم يدركون أن المجتمع والأسرة تحمّل الضحية المسؤولية، ولا تتعاطى بمسؤولية مع هذه القضايا. وهو ما يجعل كثيرا من الفتيات يخضعن للعصابات ويلبين ما يطلب منهن، خوفًا من معرفة الأسرة والأهل بالأمر.
ومن المعروف أن المجتمع اليمني محافظ، وهذه القضايا عنده خط أحمر، وأي مساسٍ بالكرامة والشرف لا بد أن يُغسل بالدم، وقد وجدت قصة سارة علوان مؤخرا تضامنا واسعًا لأنها خرجت إلى العلن عقب محاولة انتحارها.