مواد غرفة أخبار الجندر

15
أغسطس

سيدة تقود مبادرة طوعية لإطعام المرضى النفسيين

 معاذ العبيدي

تخرج الحاجة مريم “أم الخير” صباح كل اثنين وخميس من منزلها في مدينة تعز لمقابلة رفيقها الذي تطوّع بباصه مؤخرا للعمل الإنساني محمد المَعْمري. سيقودها محمد من أجل بدء مسيرتهما الإنسانية الأسبوعية، التي ابتدأتها قبل 40 عاما بجهود ذاتية في تقديم الخَمِير (نوع من الخبز) والتمر والفاكهة للمنسيين داخل المدينة.

يتّجهان لشراء الخَمِير من فُرن قريب من منزلها مارّين على متطوع آخر لديه أحد المحلات في “وادي القاضي”، وهو يبادر معهما أيضا بتوفير الفاكهة التي تأخذها أمريم  لتوزعها على المرضى في مصحة الأمراض النفسية والعقلية ومرضى الجذام.

تمتلك مريم شخصية مؤثرة على كل من تتعامل معه، تجعلهم يبادرون بالعمل الإنساني أو تحثهم عليه وكأنها رسائل إيجابية داخل مدينة تعز المحاصرة، خصوصا عند مرور باصها الذي يتجه بها من منزلها بـ”باب المداجر” وسط المدينة نحو “الزنقل” غربي المدينة، فتمرّ على عدد من الحالات الإنسانية المعدمة والمنسية.

يحبّها الجميع في مصحة مستشفى الأمراض النفسية والعصبية، ويناديها أكثر من 140 مريضا “ماما مريم”، ويتسابقون إليها عند قدومها بكل حب، فمريم تروّض أشد الحالات جنونا بتعاملها، فهي التي تتعهدهم منذ أربعة عقود بالزيارة، فيما انقطع عن غالبيتهم زيارة أقاربهم.

بداية العمل التطوعي

ابتدأت مريم مشوارها الإنساني، حسب قولها، قبل 40 عامًا بمجهود شخصي، وقد كانت تقدّم الخمير للمرضى في المصحة وللمعدمين في السجن المركزي ومرضى الجذام وللأيتام كل يومي اثنين وخميس، وذلك حينما كانت تتوفر لديها النقود التي تكسبها من بيع المحاصيل الزراعية. وفي السنوات الأخيرة اقتصر دورها على المصحة ومرضى الجذام فقط، ولم تتوقف إلا في فترة بداية الحرب في المدينة في 2015.

تحكي مريم عن بدايتها أنها كانت فكرة راودتها قديما، وأنها أرادت لهذه الفكرة أن تحيا وتستمر مدى عمر تلك الشابة التي أصبحت تعرف حالياً بالحاجة مريم التي تناهز الثمانين.  كانت تعمل مريم في “بسطة” للبيع البطاط حينها، لتوفر مبلغا محترما كل أسبوع يكفي جزء منه للعمل الإنساني، فيما يذهب الآخر لمصاريفها وعائلتها.

كانت تدر عليها تلك البسطة كثيرا من المال كما تقول: “كان العمل جيدا، وكنت أحصل على أموال كثيرة”، ومن منطلق القناعة ووجود المال، راودتها فكرة “التجارة مع الله”، كما تسميها؛ إذ أحبّت العمل الإنساني، لكنها لم تستطع تحديد الجانب الذي تريد أن تقدم فيه المساعدة.

ارتأت مريم في ذلك الوقت أنها تريد عمل فكرة مستدامة ، فرأت أن الفئات الأكثر إهمالا ونسيانا فئة المرضى نفسيا وعقليا؛ إذ يتخلّى عنهم القريب قبل البعيد والفئات المعدمة في السجن المركزي، فهم بحاجة ماسّة إلى مَن يقفون بجانبهم مهما كان جرمهم وعملهم.

وفي فترة عملها في بيع البطاط بسوق المدينة القديمة، كانت تجمع المال بحب من أجل تقديم الخدمة الإنسانية لتلك الفئات مضيفة إليها فئة الأيتام، مقدّمة لهم الخمير والتمر والفاكهة بشكل شبه أسبوعي في الأيام العادية، والملابس خلال الأعياد.

وبالإضافة للخمير والتمر كانت تقدم ماتستطيع لهم وتهتم بتنوع الأغذية، حيث كانت تقدّم اللحم والسمك وثم المياه والمشروبات، حسب المبالغ التي كانت تحصل عليها كل أسبوع من عملها في “البسطة”.

إهداء الطعام

لـ”أم الخير” كثير من الأعمال الإنسانية والخيرية منذ بداية عمرها، لكن الأهم والذي ما زال حتى الآن هو تقديمها “الخمير” كل يوم اثنين وخميس لمرضى المصحة، لكن ما يتعبها حاليا أنها لم تعد قادرة على تقديم الدعم الذي كانت تقدمه بسبب قلة إمكاناتها، فهي لم تعد تقدم الأطعمة المتنوعة واللحوم والمياه، ولا حتى الملابس للمرضى كما عوّدتهم، وأصبحت تقتصر على الخمير والفاكهة.

قلة الإمكانيات ومحدودية الدعم جعلا مريم في الفترات الأخيرة تقطع تقديمها الخمير للمرضى المنسيين في مستشفى الجذام البالغ عددهم 100 مريضا تقريبا، لكنها رغم كل شيء، ترتاد المصحة وتقدم المستطاع.

وبسبب الحرب وانقطاع وصعوبة الطرق البديلة التي منعت تجمع الأهالي في مدينة تعز، رفضت مريم ترك المدينة حيث تسكن وحدها في المنزل والذهاب للسكن عند أحد أولادها في صنعاء أو حضرموت رغم إصرارهم على ذلك قائلة: “أنا أمّ المجانين، ولا أملك أولادا غيرهم، ولن أتركهم وسأظل بجانبهم حتى أموت”.

المؤسف أنه طيلة هذا العمر لم تحضَ بأي مساعدة من أي جهات اعتبارية أو منظمات لدعم جهدها الإنساني، بل إن اسمها مُحي من قبل بعض الشخصيات من كشوفات المساعدات الإنسانية كما تقول: “قالوا إنني غنية وأقدم الدعم للناس، وإنني غير محتاجة”.

بأسف كبير، تذكر قصتها مع الشخصيات القائمة بالتسجيل للمساعدات الإنسانية، وتقول: “لستُ محتاجة للمساعدة، أنا أعطي ولا أطلب، لكن كانت ستساعدني وستساعد أولادي بالمصحة” قاصدة المرضى.

ومع ذلك  تعرف عليها كثير من محبّي العمل الإنساني الذين يدعمونها بالمال أحيانا، ويساعدونها أحيانا أخرى في توفير الأغذية والفاكهة، وكذا السائق الذي يوصلها منذ سنة.

هكذا تقدّم الحاجة مريم درسا في العمل الإنساني للجميع من دون الحاجة لأحد وغير آبهة بالشهرة والظهور الإعلامي. إن إصرار هذه السيدة في هذا السن المتقدم على العطاء هو درسا حيا في الصبر والكفاح وحب الآخرين مهما كانوا.

اشترك

اشترك في قائمتنا البريدية