نساء منسيات بلا هوية
للمرة الخامسة، ترجع الطالبة “أمجاد” (25 عامًا) من مبنى مصلحة الهجرة والجوازات في عدن جنوب اليمن، بخيبة أملٍ؛ لعدم امتلاكها هوية تثبت شخصيتها، ولا هوية والدها المجنون الذي تخلى عنها منذُ صغرها. تسعى “أمجاد” جاهدةً للحصول على جواز سفر، وثيقة تثبت هويتها كمواطنة يمنية، لكنها لا تمتلك سوى بطاقة انتخابية لوالدتها المفقودة في السجلات المدنية هي الأخرى؛ مما جعل الحالتين تواجهان أسوأ الصدمات والإهانات في حياتهما. تقول “أمجاد”: “أحس كأننا لاجئتان”. الأمر أكثر سوءًا إذا ما نظرنا إلى حالة “أسماء” -من أبناء ردفان- التي تعيل خمسة أطفال في ظروف صعبة للغاية، ليتم رفض تسجيلها كمستفيدة من المعونة الإنسانية لنفس السبب.
تراجعت محاولة “أمجاد” من استخراج جواز سفر، فقررت استخراج شهادة ميلاد؛ لتتمكن من الحصول على رقم وطني تستخدمه في العديد من المتطلبات، منها الحصول على الجواز، والتسجيل في الجامعة. ورغم مرور شهر ونصف، إلا أنها لم تحصل على البطاقة الشخصية بعد؛ وذلك بسبب عدم معرفتها بتاريخ ميلادها وعدم تعاون الجهات المعنية معها، حسب قولها.
تواجه “أسماء” مصيرًا مشابهًا، فرغم حصول سكان قريتها على الدفعة الثانية من المعونة، لا تزال “أسماء” تبحث عن ختم وشهادة من شيخ القرية المتهرب منها، وذلك للحصول على دفتر عائلي، حسب حديثها.
أمجاد وأسماء هما حالتان فقط من آلاف النساء اللواتي يعشن دون هوية شخصية تثبت حقوقهن كمواطنات يمنيات بلغن السن القانونية، رغم قسوة الظروف التي يعشن فيها وسط مناطق تشهد عنفًا شديدًا، قد تبدو الأخطر في العالم بحسب هيئة الأمم المتحدة للمرأة.
قانون قديم
تعيش النساء المنسيات من سجلات الأحوال المدنية في ظل قانون سُنّ قبل نحو (33 عامًا) وهو القانون رقم 23 للأحوال المدنية الصادر عام 1991 والتي تنص المادة 49 منه على “يجبُ على كل شخص من مواطني الجمهورية اليمنية بلغ السادسة عشرةَ أن يحصلَ من إدارة الأحوال المدنية والسجل المدني الذي يقيمُ في دائرتِهِ على بطاقة شخصيةٍ فإذا أصبحَ المواطنُ ربَّ أسرةٍ وجبَ عليه أن يقدِّمَ بطاقته الشخصيةَ إلى إدارة الأحوال المدنية والسجل في دائرتِهِ للحصول على بطاقة عائليةٍ”.
وتأتي المادة(61) من نفسِ القانونِ لتنصَّ على أن يعاقبَ المخالفونَ للمادة(49) بغرامةٍ ماليةٍ لا تقلَّ عن 500 ريالٍ يمني ولا تزيد عن 3000ريالٍ يمني.
يقولُ رئيسُ مصلحة الأحوال المدنية والسجل المدني في الحكومة الشرعية المعترف بها دوليا اللواءُ “سند جميل” إنه حدثتْ تعديلاتٌ بسيطةٌ في بعضِ موادِ قانون 23 في العامِ 2001، ٍ وهو بما يخصُّ تسهيلَ المعاملاتِ والغراماتِ، وتذليل بعضَ الصعوباتِ التي تصعبُ الحصولَ على الهويةِ، وفي المقابل يعرضُ “جميل” الصورةَ المأساويةَ التي انتهت بها الأعدادُ الضخمةُ للنساءِ اللاتي لا يمتلكنَ هويةً؛ لعدمِ وجودِ أيِّ عقوباتٍ مفروضةٍ على أولياء الأمور الذين لا يسمحونَ لبناتِهم ونسائِهم بالحصول على هويةٍ، وعدمِ مبادرتِهم كأولياء أمورٍ في استخراجِ شهادةِ الميلادِ التي تعدُّ الهويةَ الأولى للطفلِ.
ويتحدث “جميل” عن حالاتٍ مفزعةٍ لنساء لا يملِكن للهويةِ خاصةً في الأريافِ؛ بسببِ الوعي القبليِّ المسيطر هناكَ بعدمِ حاجة المرأة لامتلاكِ هويةٍ حيثُ يأتي إليه حالاتٌ بلغتْ من العمرِ أكثرَ من أربعينَ عامًا، دون هويةٍ، وأنَّ أكثرَ الحالات لا تحضرُ لاستخراج الهوية إلاَّ للدراسة أو سفرٍ، أو معونةٍ إنسانيةٍ، وهذه كارثةٌ ومأساةٌ بأُمِّ عينِها، لكونِ الهوية أمرًا غايةَ الأهميةِ.
إزاء ذلك يلخصُ جميلُ أسبابَ قصورِ الآباءِ بعدمِ استخراجِ شهاداتِ الميلادِ بأنَّها إما أن تكونَ التحفظُ لكونِهم نساءٍ، أو انشغالُهم بأعمالٍ أو سفرٍ، وأنَّ الحالاتِ المفتقرةَ للوثائقِ السابقة مكررةٌ كثيرًا.
غيابُ الإحصائيات
تعترفُ الأحوالُ المدنيةُ بأنَّها لا تَملِكُ حتى الآنَ أي إحصائياتَّ ، يمكنُ من خلالِها معرفةُ العدد الحقيقيِّ للنساءِ المنسياتِ من سجلاتِها المدنيةِ.
لكن بحسب عدد النساء الوافدات إلى سجلات الأحوال المدنية للحصول على الهوية المتأخرة كبير جدا، بحسب جميل.
رئيس مبادرةِ “من حقي” المهندسةُ “هيفاء شوكت” تقولُ إنه ربما يكونُ عددُ النِّساءِ اللاتي لا يَملِكنَ هويةً كبير جدا لأنَّ هناكَ مجتمعاتٍ ريفية كبيرةً وبعيدة ً لم يعرفن النساء فيها ماهي الهوية، يطويهن التراب منسياتِ من السجلاتِ المدنيةِ، لا يحصلن على هوية ولا شهادة وفاة وحتى الزواجُ هناكَ يتمُّ بالعرفِ القبليِّ.
آخرُ تعدادٍ سكاني أجرته الحُكومةُ كانَ في عامِ 2004، وقد بلغَ عددُ النِّساءِ (10,262.47)، لكن حتى هذا التعدادُ لم يشير إلى عددِ النِّساءِ المنسياتِ من السجلاتِ المدنيةِ، كما تقولُ شوكتٌ، 21 عامًا مرَّتْ على آخرِ تعدادٍ تشهدُ ولاداتٍ جديدةً، ونساءٍ بلغنَ السنَّ القانونيةَ، ونساءٍ تزوَّجنَ… وتؤكدُ شوكتٌ “المرأةُ بلا هويةٍ كلاجئةٍ في وطنِها”.
في مديريةُ “حبيل جبر” التابعةُ لمحافظةِ لحجَ 51.2 كيلومتر شمال شرق عدن، وبحسبِ الإسقاطِ السكاني لمكتبِ الصحةِ والسكان للسنةِ 2022، فإنَّ هناكَ (30941) امرأةً تقطنُ المديريةَ، وعندما تتبَّعَ كاتبُ التحقيقِ عملياتِ حصولِ المرأةِ هناكَ على الهويةِ تبينَ أنَّ النِّساءَ اللاتي حصلنَ على هويةٍ بلغَ عددهنَّ 95 امرأةً في العامِ 2021، 160 امرأةً في 2022، 275 امرأةً في 2023، ومنذُ كانون الثاني/ يناير إلى نيسان/ أبريلَ من العامِ الجاري، صُرفتِ للنساءِ 223 بطاقةً فقط.
ويوضِّحُ التقريرُ النصفُ السنويُّ من الفترةِ كانون الثاني/ يناير – حزيران/ يونيو من العامِ 2024، الصادرُ عن مصلحةِ الأحوالِ المدنيةِ والسجلِّ المدنيِّ أنَّ عددَ البطاقاتِ المصروفةِ للنساءِ محافظةَ لحجَ (354) بطاقةً مقابل (9730) للرجالِ، التقريرُ نفسه يوضح عددَ البطاقاتِ التي صُرفتِ للنساءِ في 12 محافظةً بلغتْ (79398) مقابلَ (129044) للرجالِ، أما البطاقاتُ العائليةُ فكانتْ حصةُ النِّساءِ (1169) مقابلَ (23136) للرجالِ.
أما شهاداتُ الميلادِ المصروفةُ خلال هذهِ الفترةِ بلغتْ (61433) منها (24461) إناثًا و (37072) ذكورا.
في شهرِ آب/ أغسطسَ من العامِ الجاري بلغَ عددُ البطاقاتِ الشخصية المصروفة للنساءِ 225 بطاقةً، بينما كانتْ 280 بطاقةً من نصيب الرجالِ.
وتؤكدُ مسؤولةُ البياناتِ وتسليمِ البطائق “رشاء محمد إبراهيم”في مصلحة الأحوال المدنية “عدن” إنَّ الرجالَ هم أكثرُ من يحصلون على البطاقاتِ ويأتونَ مباشرةً لاستلامِها، بعكسِ النِّساءِ لا يأتينَ لاستلامِ بطاقاتِهنَّ، حيث بلغتْ نسبةُ بطاقاتِ النِّساءِ الإلكترونيةِ الغيرِ مستلمةِ للعامِ 2024 (540) بطاقة تقريبًاً.
بطاقات لم تستلم لأسباب غير معروفة
في سجلِّ الأحوالِ المدنيةِ فرعُ “عدن” – السجلِّ المعتمدِ رسميًّا – حيثُ يأتي إليه جميعُ سكانِ الجمهوريةِ، توجدُ آلافُ البطاقات الخاصةِ بالنِّساءِ تعودُ إلى العامِ 2016، لم تُستَلَمْ بعد، رغمِ التواصلِ من قبلِ الجهةِ المعنيةِ مع أصحابِ الشأنِ، ورغمِ الإفصاحِ عن الأسماءِ في الجريدةِ مصحوبةً بإشعارٍ (على الأسماءِ المذكورةِ الذهابُ إلى الأحوالِ المدنيةِ) لكن دونَ جدوى، وفقَ ما أخبرنا المسؤولُ عن البطاقاتِ القديمةِ “محمد العياشي”.
وبحسبِ اطلاعِ كاتبِ التحقيقِ على البطاقاتِ القديمةِ التي تغيَّرَ لونُها إلى الأصفر، كانتْ عدد البطاقاتِ المصروفةِ قبل2023، 900 بطاقةٍ تقريبًا، أقدمُها كانَ في2016، بالإضافةِ إلى أكثرَ من 100 استبيانٍ، وقالَ “العياشي” إنَّه خُسرت مبالغَ للحصولِ على البطاقاتِ والاستبياناتِ هذه من قبل أصحابها.
أما البطاقاتُ الحديثةُ التي صُرفتِ في عامِ 2023، وما زالتْ لم تُستَلَمْ بعدُ بلغَ عددُها 480 بطاقةً تقريبًا.
لم يسألْ أحدٌ عن البطاقاتِ المهملةِ في الصناديق المقفلةِ منذُ تسعِ أعوامٍ، غيرَ أنَّ البطاقاتِ الأخيرةِ يأتي لاستلامِها في الأسبوعِ شخصٌ واحدٌ على الأكثرِ، أما القديمةُ، أحيانًا يأتي شخصٌ كلَّ ثلاثةِ أسابيعَ، بحسبِ “العياشي”.
النظرة المجتمعية للهوية
لم يكن القانون وحده فقط من يقف عائق أمام استخراج النساء لهوية الإثبات الشخصية فهناك أسباب أخرى استطاع معد التحقيق الحصول عليها من خلال استطلاع قام به شمل نساءٌ ورجالٌ من مختلفِ الفئاتِ عن آراءَهم في امتلاكِ النِّساءِ للهويةِ، لكنَّ غالبيةَ الآراءِ تؤيد ما حاجةُ المرأةِ للبطاقةِ، فهي أولى مهامها الطبخُ، وأخذتِ النظرةُ القاصرةُ للرجلِ القبليِّ وضوحًا وكبرياءً في رأيِ أحدِ الشباب كانَ يحملُ سلاحًا ومشدةً على رأسه حيثُ قال: “لو كانتِ الهويةُ تُعلِّمُ المرأةَ كيفَ تطبخ وتغسل تمام”.
جمعنا كلَّ تلكَ الآراءَ والنظرات وطرحناها على مائدةِ أستاذِ علمِ الاجتماعِ في جامعةِ عدنَ، الدكتورِ “محمود شائف” وتحدَّثَ قائلًا: إنَّ المعتقداتِ والتقاليدَ الثقافيةَ تلعبُ دورًا أساسيًّا في عدمِ حصولِ النِّساءِ على الهويةِ، وحصرِها على الذكورِ فقط، وهذا يقودُ إلى التمييزِ الجندريِّ في تفضيلِ الذكرِ على الأنثى، وهي الطبيعةُ الريفيةُ المفتقرةُ للوعيِ المتوارث منذُ القدمِ، بالإضافة إلى الصعوباتِ الجغرافيةِ وبعدِ المسافةِ والفقرِ.
لكنَّ رغمَ هذا لم يحصرِ “شائف” افتقارَ النِّساءِ للهويةِ بالأعراف المجتمعية فقط، فالتهميشُ القانونيُّ والإداريُّ، وضعفُ السياساتِ والإجراءاتِ الحكوميةِ في حقِّ حصولِ أطفالِ الريفِ على شهاداتِ الميلادِ؛ يؤدي بشكلٍ أساسيٍّ إلى عدمِ امتلاكِ المرأةِ الريفيةِ للهويةِ.
الأسبابُ الرئيسيةُ لعدمِ امتلاكِ النِّساءِ للهويةِ الشخصيةِ والتي تبينتْ من خلالِ هذا التحقيقِ، تعودُ إلى الوعيِ المجتمعي بالمرتبة أولى، ويأتي تخاذل الجهاتِ الحكوميةِ المسؤولةِ، وعدم تشديد القوانين في المرتبة الثانية، حيث كان المطلبُ الرئيسيُّ للنِّساءِ اللاتي لا يَملِكنَ هوية والتي التقتْ بهنَّ كاتبةُ التحقيقِ، هو تسهيلُ المهامِّ لهنَّ، وتوعيةُ مجتمعاتِهنَّ، وسن قوانين صارمة تعاقب الأهل المتخاذلين عن استخراج شهائد الميلاد لبناتهم، والزامهم بتوفيرُ شهادةِ الميلادِ للبنات منذُ الصغرِ؛ حتى لا يواجهنَ ما واجهنه، فالأيامُ تمضي إلى الأسوأ، حسب تعبيرهنَّ.
خطواتٌ من الحل
يتساءلُ اللواء “سند جميل” : كيفَ يمكنُ لامرأةٍ لا تَملِكُ هويةً شخصيةً ممارسةَ حقوقِها، وتحصلُ على صلاحيةِ الوصولِ للميراثِ والتعليمِ والسفرِ، والمعوناتِ والمدارسِ والمستشفياتِ والخدماتِ البنكيةِ…؟ وهذا ما جعلهُ ينظرُ إلى هذا الملفِّ ألفَ مرةٍ، ويطالبُ الجهاتِ والمنظماتِ بالوقوفِ معهُ لحلِّ هذهِ المشكلةِ.
ومن أجلِ تسهيلِ استخراجِ شهاداتِ الميلادِ يبذلُ اللواء ” جميل” منذُ شهرينِ جهودًا كبيرةً لتصميمِ استمارةٍ خاصةٍ بالمهمةِ، تمَّ التشاورُ والمصادقةُ عليها من قبلِ اللجانِ المجتمعيةِ، على حسب تعبيرِه.
ويؤكدُ جميلٌ، إنَّ هذه الاستمارة ستعملُ على حل معضلةِ عدمِ حصولِ الطفلِ على شهادةِ الميلادِ لأنَّها ستتوفرُ بكلِّ حي وقريةٍ، وكلُّ استمارةٍ تحملُ رقمًا وطنيًّا خاصًّا بها.
ويشيرُ “شائف” إلى ضرورةِ تظافرِ جهودِ الجهاتِ الحكومية وسنِّ تشريعاتٍ وقوانين شاملةٍ تهتمُّ بملفِّ حقِّ امتلاكِ المرأةِ للرقمِ الوطني.
ويقترحُ “شائف” على المنظماتِ المحليةِ والدوليةِ بمواكبة الجهودِ لرفعِ وعيِ الأسرةِ الريفيةِ في أهميةِ حقِّ امتلاكِ المرأةِ للهوية الشخصيةِ، وتوفيرِ الدعمِ المالي.
تندرج نساء اليمن ضمن ما يقاربُ 850 مليونَ شخصٍ حولَ العالمِ ليسَ لديهِ هويةٌ رسميةٌ، وفقا لتقرير أصدرتها مجموعة البياناتِ العالميةِ ID4D 2021، وهذا يشملُ 1.1 على الأقل مليارَ شخصٍ ليسَ لديهِ سجلٌّ رقميٌّ لهويتهِ، 1.25 مليارِ شخصٍ على الأقل ليسَ لديهِ هويةٌ يمكنُ التحقُّقُ منها رقميًّا، وما لا يقلُّ عن 3.3 ملياراتٍ وثلاثمائةِ مليونِ شخصٍ ليسَ لديهِ إمكانيةُ الوصولِ إلى هويةٍ رقميةٍ معترفٍ بها من قبلِ الحكومةِ للتعاملِ الآمنِ عبرَ الإنترنتِ.
ورغم بذل جهود مضنية، لم تتمكن “أمجاد” من استخراج جواز سفر حتى تاريخ إعداد هذا التحقيق، وذلك بسبب التعقيدات الإدارية التي واجهتها أثناء استخراج شهادة الميلاد والبطاقة الشخصية، التي زادت من معاناتها النفسية والاجتماعية والمالية، حسب تعبيرها.
(تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع غرفة أخبار الجندر اليمنية الذي تنفذه مؤسسة ميديا ساك للإعلام والتنمية)