مواد غرفة أخبار الجندر

28
أغسطس

نساء اليمن|ضحايا الألغام الصامتة

 هشام المخلافي

في اليمن الذي مزقته الحرب، تواجه النساء خطرًا مميتًا يتمثل في الألغام الأرضية التي زرعتها أطراف النزاع بشكل عشوائي.

يتعرضن لهذه الألغام أثناء قيامهن بأنشطة حياتية يومية كالبحث عن الحطب أو المياه أو العمل في الزراعة والرعي.

لا تقتصر معاناة النساء على الإصابات الجسدية والنفسية فحسب، بل تمتد إلى فقدان القدرة على العمل وإعالة أسرهن، بالإضافة إلى صعوبات الحصول على الرعاية الصحية والتأهيل.

هذا التقرير يسلط الضوء على قصص واقعية لنساء ريفيات تضررن من الألغام، مُبرِزًا حجم المعاناة التي يعشنها جراء النزاع في اليمن.

حِينَ غَدَرَتِ الأَرضُ بِأَهلِها

في أحضان الريف اليمني الهادئ، تقع قرية الشقب، إحدى قُرى مديرية صبر الموادم بمحافظة تعز، حيث الجبال الشامخة تحكي حكايات من الألم والمعاناة. هنا، في هذه القرية البسيطة، تحولت الحياة إلى معركة يومية للبقاء. الألغام الأرضية والقناصة الحوثيون يتربصون بكل خطوة، يحصدون الأرواح ويشوهون الأجساد. النساء هن الأكثر تضررًا، يتعرضن للخطر في كل مرة يخرجن فيها من منازلهن بحثًا عن لقمة العيش.
في صباح يوم الخامس من نوفمبر 2018، كانت الحاجة فاكهة، امرأة في الخمسين من عمرها، تخرج مع صديقاتها لجمع الحشائش لبقرتها. كانت الغيوم الكثيفة تخفيهن عن أعين القناصة، فشعرن بالأمان النسبي. تقول فاكهة: “استيقظنا على جو غائم، فكانت فرصة للذهاب مع نساء القرية لجمع الحشائش، فالغيوم تبعد أنظار القناص عنا. بدأنا بجمع الحشائش، وفجأة لم أشعر إلا وجسمي يرتفع عاليًا بعد أن دست على لغم أرضي انفجر بي”.
تضيف فاكهة بصوت يرتجف: “فقدت قدمي اليمنى وإحدى عينيّ، وأصبت بجروح في جسدي كله. لم أعلم بما حدث وماذا أصابني إلا بعد أيام في مستشفى الصفوة في مدينة تعز. صديقاتي أخبرنني أنهن سمعن صوت الانفجار، وهرعن إلى مكانه، فوجدنني مرمية على بعد أمتار من الانفجار بتلك الحالة. لم ينقذني إلا سماع أهالي القرية لصراخهن، ليتم إخراجي ونقلي إلى المستشفى”.
فاكهة لم تكن الضحية الوحيدة. سبع نساء أخريات فقدن حياتهن بسبب الألغام والقناصة، وعشرات النساء والأطفال فقدوا أطرافهم. كل يوم يحمل في طياته قصة جديدة من الألم والمعاناة، وكل يوم يثبت أن الشقب أصبحت رمزًا للمأساة الإنسانية في اليمن.

مِن عَبَقِ الرَّيحانِ إِلى رائِحَةِ المَوتِ

لانزالُ في قرية الشقب الساكنة، حيث الريحان يعبق، والصباحات تحمل نسمات السلام، ففيها وقعت فاجعتان هزتا أركان القرية البسيطة. الحاجة عالمة، سيدة طيبة القلب، كانت تعتني بشجيرات الريحان بكل حب وعناية.
في صباح أحد الأيام، خرجت كعادتها لتسقي نباتاتها العطرة، لكن القدر كان ينتظرها في صورة لغم أرضي غادر. انفجار مدوٍّ، أشلاء متناثرة، ونصف جسد مفقود. مشهد مروع لا يمكن للكلمات أن تصفه، تاركًا جرحًا عميقًا في قلوب أهل القرية.
بعد شهرين فقط، تكررت المأساة. الحاج صالح، زوج الحاجة عالمة، خرج إلى جوار منزله في صباح هادئ، فكان انفجار آخر، يد مبتورة، بطن مشقوق، وألم لا يطاق، تم نقله إلى المستشفى، لكن روحه الطيبة كانت قد صعدت إلى بارئها. ترك الحاج صالح وراءه أسرة مفجوعة وقرية غارقة في الحزن والأسى.
قصة الحاجة عالمة والحاج صالح وغيرهما ليست سوى غيض من فيض، قرية الشقب بأكملها تعاني من ويلات الحرب، الألغام والعبوات الناسفة تفتك بالأطفال والنساء والشيوخ، وتحول القرية إلى ساحة للموت والدمار.

يصف عبدالله الشقب (شاهد عيان) هذه المشاهد، والدموع تخنقه: “الكلمات تتلعثم في فمي، والدموع تخنقني. رأيت بأم عيني أكبر جريمتين في قريتنا المسالمة. الحاجة عالمة، رحمها الله، خرجت تسقي ريحانها، فانفجر بها لغم، مزق جسدها الطاهر. لم نجد حتى نصف جسدها ندفنه. وبعد شهرين، زوجها الحاج صالح، انفجر به لغم آخر جوار المنزل، ومات متألمًا في الطريق إلى المستشفى.

يُضيف: “الحوثيون يسيطرون على المنطقة، ويتسللون ليلًا ليزرعوا ألغام الموت في كل مكان بين منازلنا، العبوات تنتظرنا في كل زاوية. نزحنا، لكن الفقر أعادنا. كل خروج من المنزل مغامرة، قد لا نعود. بيوتنا أصبحت مصايد، لا نفرق بين لغم أو عبوة. قريتنا تنزف، وأهلها يموتون كل يوم. إلى متى؟”.
وقالت منظمة هيومن رايتس ووتش إن معظم سكان الشقب، وأغلبهم مزارعون أو رعيان، نزحوا من أرضهم في بدايات النزاع، وأن أكثر من 527 عائلة نزحت من القرية مع تراجع الأعمال القتالية النشطة في السنوات القليلة الماضية، قُتل العديد من السكان الذين حاولوا العودة إلى منازلهم للاهتمام بأرض زراعية، أو رعي ماشيتهم، أو أُصيبوا بجروح خطيرة بسبب الألغام المضادة للأفراد، وقُتلت ماشيتهم أيضًا، والعديد من المصابين لديهم إعاقة دائمة.
اللجنة الوطنية للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان، أكدت أن حجم التلوث بالألغام يفوق التصور. لم نكن نتوقع هذا الخطر المدمر الذي يهددنا اليوم، بخاصة النساء والأطفال. الألغام زرعت بشكل عشوائي في مناطقنا، حتى في الأماكن التي ترتادها النساء. هذه الألغام هدفها القتل والتشويه، وليس لها أية علاقة بالعمل العسكري.

اللجنة حققت في أكثر من 1800 حالة لنساء ضحايا الألغام، كل حالة تحمل قصة مأساوية. النساء الريفيات فقدن مصادر دخلهن، واضطررن للعمل في مهن لا تفي بحاجاتهن. الكثير من النساء فقدن حقهن في الحياة، وحقهن في رعاية أطفالهن، وحقهن في القيام بدورهن في المجتمع بسبب هذه الكارثة”.

المركز التنفيذي للتعامل مع الألغام في صنعاء (تابع لجماعة الحوثي) في آخر بيان له قال إن النساء الريفيات يواجهن مخاطر جمة، وفي مقدمة هذه المخاطر الأجسام من مخلفات الحرب، مؤكدًا أنه وثق مقتل وإصابة 64 امرأة خلال عام 2022، وهو أضعاف ما تم توثيقه خلال العام 2021، إذ قتلت 10 نساء، وأصيبت 54 امرأة أخرى، ليرتفع عدد ضحايا النساء من الألغام منذ مارس 2015 حتى مارس 2022، إلى 146 قتيلة و553 مصابة.
بينما تشير آخر إحصائية أعلنها المركز التنفيذي للتعامل مع الألغام في تعز (تابع للحكومة المعترف بها دوليًا)، نشرها موقع برنامج مسام السعودي الذي يعمل في تطهير المناطق اليمنية من الألغام، إلى أن عدد ضحايا الألغام من النساء في تعز فقط خلال الفترة من 2017م وحتى 2023م، بلغ 17 قتيلة، بينما بلغ عدد المصابين 203 نساء، من إجمالي 1222 ضحية من المدنيين نُسبت جميعها لألغام زرعت من قبل القوات التابعة للحوثيين في نفس الفترة، تنوعت بين وفيات وإصابات بالغة.
بينما تشير إحصائيات المرصد اليمني للألغام إلى أنه منذ مارس 2015 وحتى مارس 2021، تسببت الألغام التي زرعها الحوثيون في تعز، بمقتل وإصابة 3263 مدنيًا، غالبيتهم من النساء والأطفال.
وأشارت منظمة مواطنة لحقوق الإنسان في تقريرها لعام 2023، إلى أنها وثقت 183 واقعة انفجار ألغام وأجسام متفجرة، منها 92 واقعة أجسام متفجرة، و91 واقعة ألغام. توزعت تلك الوقائع بين انفجار الألغام الأرضية بأنواعها (الفردية والمضادة للمركبات)، والشراك الخداعية والعبوات المموهة، وبقايا الأسلحة كالعبوات الفارغة للرصاص والقنابل اليدوية والعبوات الناسفة، وغيرها من المقذوفات البرية. وأسفرت هذه الانفجارات عن إصابة ومقتل 324 من المدنيين، بينهم 213 طفلًا و26 امرأة.
وأشارت إلى أن جماعة أنصار الله (الحوثيين) تتحمل المسؤولية عن 86 واقعة ألغام و57 واقعة أجسام متفجرة أخرى، في حين تتحمل قوات الحكومة المعترف بها دوليًا المسؤولية عن 4 وقائع ألغام و16 واقعة أجسام متفجرة أخرى، وتتحمل قوات المجلس الانتقالي الجنوبي المسؤولية عن واقعة ألغام واحدة و7 وقائع أجسام متفجرة أخرى، في حين تتحمل القوات المشتركة المسؤولية عن 4 وقائع أجسام متفجرة، ويتحمل تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية المسؤولية عن 3 وقائع أجسام متفجرة، ويتحمل التحالف بقيادة السعودية والإمارات المسؤولية عن واقعتي أجسام متفجرة، و3 وقائع أجسام متفجرة لم يتمكن فريق مواطنة من تحديد الطرف المسؤول عنها”.

تشير بيانات منظمة العمل ضد العنف المسلح (AOAV) إلى وقوع 101 حادث انفجار ألغام وذخائر غير منفجرة في اليمن منذ عام 2010، مما تسبب في 417 إصابة بين المدنيين، من بينهم ما لا يقل عن 15 امرأة. تسلط هذه الأرقام الضوء على الخطر المستمر الذي تشكله الألغام على السكان المدنيين في اليمن، وبخاصة النساء اللاتي غالبًا ما يتحملن مسؤولية جمع الحطب والماء ورعاية الماشية، مما يعرضهن بشكل أكبر لخطر الألغام الأرضية.

كما يشير التقرير إلى تصاعد مقلق في حوادث الألغام والذخائر غير المنفجرة في اليمن، حيث تم تسجيل 9 حوادث في أسبوع واحد فقط في مايو 2022، مما أدى إلى إصابة 57 مدنيًا. والأخطر من ذلك، أن 82٪ من هذه الإصابات وقعت في المناطق المأهولة بالسكان، مما يزيد من خطر هذه الأسلحة على المدنيين. ويزيد من تعقيد المشكلة صعوبة تحديد المسؤولية عن هذه الحوادث، إذ إن الألغام والذخائر غير المنفجرة قد تبقى كامنة لسنوات قبل أن تنفجر بشكل عشوائي.
إن الألغام الأرضية في اليمن ليست مجرد أسلحة، بل هي أدوات موت صامتة تسرق الحياة والأحلام. إنها تجسد الوجه القبيح للحرب، الذي لا يفرق بين مقاتل ومدني، ولا بين رجل وامرأة، ولا بين طفل وشيخ.
إن معاناة النساء اليمنيات، اللاتي يواجهن خطر الألغام بشكل يومي، هي شهادة دامغة على وحشية هذا النزاع. فهن يدفعن ثمنًا باهظًا ليس لهن فيه ناقة ولا جمل، يفقدن أطرافهن، وبصرهن، وحياتهن، ويتركن أسرهن في حالة من الفقر والعوز.
(تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع غرفة أخبار الجندر اليمنية الذي تنفذه مؤسسة ميديا ساك للإعلام والتنمية)

اشترك

اشترك في قائمتنا البريدية