في حضرموت | نساء يكافحن لتوظيف التراث في خدمة البيئة
تعدّ محافظة حضرموت من المناطق التي تمتاز بتراث ثقافي غني يعكس التنوع التاريخي والحضاري للمنطقة. ولطالما كانت المرأة الحضرمية جزءاً لا يتجزأ من هذا التراث، حيث لعبت دوراً مهماً في الحفاظ على العديد من الحرف التقليدية التي تمثل جزءاً أساسياً من الهوية الثقافية. من صناعة الخوص إلى الخزف، مروراً بالمنحوتات الطينية، وصولاً إلى الأزياء التقليدية التي تزينها، تظل المرأة الحضرمية رمزاً للإبداع والحفاظ على التراث الثقافي المادي في وجه التحديات المعاصرة. كما أن هذه الحرف تساهم بشكل مباشر في الحفاظ على البيئة، مما يعكس تناغماً بين التراث وحماية الطبيعة.
صناعة الخوص: التراث الذي لا يموت
منذ قرون، كانت صناعة الخوص واحدة من أهم الحرف التي ارتبطت بحياة المرأة في حضرموت. ففي القرى والمدن الصغيرة، كانت النساء يتجمعن في حلقات العمل التقليدية لصناعة السلال والحصير والمراوح وغيرها من المنتجات المصنوعة من الخوص. وتعتبر هذه الحرف من أبرز مظاهر الحياة اليومية في حضرموت، حيث تعتمد عليها الأسر في استخداماتها المختلفة.
تؤكد سيدة الخوص الشهيرة في مدينة المكلا، فاطمة بن سعيد، (45 عامًا) على أهمية هذه الحرفة في حياتها اليومية، وتقول: “الخوص هو جزء من تاريخنا وثقافتنا. لقد تعلمت هذه الحرفة من والدتي، والآن أتعلمها لابنتي لكي تستمر في الحفاظ على هذا التقليد الأصيل”. فاطمة تمثل نموذجاً حياً للنساء اللاتي نقلن هذه الحرفة عبر الأجيال، وحافظن على أساليبها التقليدية التي تمثل جزءاً من الروح الحضرمية. وتتميز صناعة الخوص في حضرموت بأنها صديقة للبيئة، حيث يتم استخدام المواد الطبيعية المتوفرة في البيئة المحيطة، مما يقلل من التأثيرات البيئية الضارة ويعزز استدامة هذه الصناعة.
الخزف: اللمسات الفنية التي تروي قصة الحضارة
من الحرف التي لا تقل أهمية عن صناعة الخوص، تأتي حرفة صناعة الخزف التي تشتهر بها بعض المناطق في حضرموت. تعدّ صناعة الفخار والخزف واحدة من أقدم الحرف التي مارستها النساء في هذه المنطقة. من الأواني المنزلية البسيطة إلى التماثيل والزخارف الجميلة، تشكل صناعة الخزف عنصراً مهماً في التراث الثقافي للحضارمة.
تعمل النساء في ورش الخزف الصغيرة في مختلف المدن والقرى، ويُعتبر هذا العمل بمثابة وسيلة للحفاظ على التراث ونقل المهارات من جيل إلى جيل. تقول مريم سعيد، (33 عامًا) إحدى الحرفيات في منطقة الشحر: “الخزف في حضرموت له خصوصية كبيرة، كل قطعة تروي قصة عن تاريخ المنطقة وحضارتها. نحن نسعى للحفاظ على هذه الحرفة التي تجمع بين الجمال والفائدة.” وتتميز هذه الحرف باستخدام المواد الطبيعية والطين المحلي، مما يجعلها من الحرف الصديقة للبيئة التي لا تضر بالنظام البيئي المحلي.
المنحوتات الطينية: الأصالة التي تبقى
لا تقتصر إبداعات المرأة الحضرمية على الخوص والخزف فقط، بل تشمل أيضاً المنحوتات الطينية التي تعد من بين أبرز أشكال الفنون التقليدية في حضرموت. تستخدم النساء الطين المحلي لصنع الأواني، والزخارف الجدارية، وحتى التماثيل التي تعكس جمال وروعة الطبيعة الحضرمية.
يعدُّ الطين أحد المواد الأساسية التي تستخدمها النساء في العديد من الحرف التقليدية، حيث تمثل المنحوتات الطينية وسيلة للتعبير عن الإبداع الفني والارتباط بالبيئة المحلية. تقول سلمى بن علي، (40 عامًا) نحاتة طينية من مدينة تريم: “الطين هو مصدر إلهامنا. كل تمثال أو قطعة نحتية هي جزء من تاريخنا، نحفر فيها ذكريات الأجداد وأحلام المستقبل.” وفي هذا السياق، تساهم المنحوتات الطينية في حماية البيئة من خلال استخدام مواد طبيعية بالكامل، مما يقلل من الحاجة لاستخدام المواد الصناعية الملوثة.
الأزياء التقليدية: ألوان تحكي الحكايات
ومثلما يمثل الطين مصدرًا مهمًا للحفاظ على التراث، تمثل الأزياء التقليدية –أيضًا- جزءاً مهماً من هوية المرأة الحضرمية، حيث تحمل كل قطعة زي تاريخاً وثقافة تمتد عبر الزمن. تتميز الأزياء التقليدية في حضرموت بتنوعها بين الملابس اليومية والملابس الخاصة بالمناسبات، التي تتزين بالزخارف اليدوية والتطريزات المعقدة.
تستخدم النساء في حضرموت الأقمشة المحلية والتطريزات اليدوية لتصميم الأزياء التي تواكب التقاليد والعادات الاجتماعية. وتعتبر الأزياء التقليدية بالنسبة للنساء في حضرموت ليس فقط رمزاً للجمال والأنوثة، بل أداة للحفاظ على الهوية الثقافية. تقول فاطمة بن جوهر، (25 عامًا) إحدى المتخصصات في صناعة الأزياء التقليدية بسيئون: “كل قطعة أزياء نقوم بخياطتها تحتوي على قصص وتاريخ. نحن نؤمن أن الأزياء جزء من التراث الذي يجب أن نحافظ عليه، وأن نمرره للأجيال القادمة.” هذه الأزياء التي تعتمد على الأقمشة الطبيعية تحافظ على بيئة صحية وتساهم في تقليل الاعتماد على الأقمشة المصنعة التي قد تضر بالبيئة.
دور المرأة في الحفاظ على التراث الثقافي المادي وحماية البيئة
إن دور المرأة الحضرمية في الحفاظ على التراث الثقافي المادي لا يقتصر فقط على ممارسة الحرف اليدوية، بل يمتد إلى نقل هذه الحرف من جيل إلى جيل، وتطويرها بما يتناسب مع العصر الحديث دون المساس بجوهرها. وقد أكدت العديد من الدراسات على أن النساء في حضرموت هنَّ عماد الحفاظ على التراث الثقافي، سواء من خلال مشاركتهن في المعارض أو ورش العمل أو من خلال تعليمهن للأجيال الشابة.
وبالإضافة إلى ذلك، تساهم هذه الحرف في الحفاظ على البيئة من خلال استخدامها للمواد الطبيعية والموارد المحلية. فتلك الصناعات التقليدية تعتبر نموذجاً يحتذى به في الاقتصاد الأخضر، حيث تتميز بكونها صناعات صديقة للبيئة، مما يعكس تكامل الهوية الثقافية اليمنية مع الحفاظ على البيئة.
تحديات وفرص المستقبل
ويقول يسلم بافطيم (50 عاماً) مدير مكتب وزارة الثقافة بمديرية غيل باوزير: “وعلى الرغم من الدور الهام الذي تلعبه النساء في حفظ التراث الثقافي المادي وحماية البيئة، إلا أنهن يواجهن تحديات كبيرة، مثل قلة الدعم المالي والتدريب المتخصص، فضلاً عن التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تعيق بعض النساء عن الاستمرار في هذه الحرف. إلا أن العديد من المبادرات والمشروعات الثقافية في حضرموت تسعى لتوفير الدعم لهذه الحرفيات، من خلال تدريبهن وتقديم المنصات لعرض أعمالهن”.
إن النساء في محافظة حضرموت يشكلن عنصراً أساسياً في حفظ التراث الثقافي المادي الذي يميز هذه المنطقة العريقة. من صناعة الخوص والخزف إلى المنحوتات الطينية والأزياء التقليدية، تظل المرأة الحضرمية رمزاً للإبداع والتمسك بالقيم الثقافية. ورغم التحديات التي يواجهنها، فإنهن لا يزلن قادرات على الحفاظ على هذا التراث الغني، والابتكار في طرق جديدة تضمن استمراريته للأجيال القادمة. وبفضل ارتباط هذه الحرف بالبيئة وكونها صناعات صديقة لها، يساهمن في تعزيز الاستدامة وحماية الأرض التي تحتضن تاريخهن وثقافتهن.