في منزلها الواقع بمنطقة (اللحوم) شمال مدينة “عدن”، تمتد الشابة “رندى” أمام مروحتها الصغيرة بعد أن غطت وجهها بمادة (المر) المخلوط بالفحم؛ لإزالة التصبغات (التمغر الجلدي) التي أصيبت بها؛ إثر استخدامها لكريم “الصومالية” منذ قرابة العام.
وعلى الرغم من اجتياح التصبغ المبكر لبشرة “رندى” حيث وإن الأخيرة لم تتجاوز ربيعها الخامس بعد العشرين، إلا أنها ترى نفسها أفضل حالاً من جارتها “سامية” والتي تشوهت بشرتها بالنمش والبثور؛ نتيجة لاستخدامها خلطة تبييض شعبية، وما تزال تخاطر مرة أخرى بكريم” الدكتور Spotless ” لإزالة التشوهات.
وربما سيكون مصير “أنوار” والتي تعاني من تجمع للحبوبِ على خديها؛ بسبب استخدامها لخلطة صوابين مع كريمي الديرموفيت والدكتور، مشابهًا لمصير رندى، فهي لا تريد أن تتوقف عن استخدام خلطات التبييض، ولا ترغب بالعودة إطلاقًا إلى لونها الأسمر؛ فالأخير جعلها عرضةً للإحراجات والتنمر مرارًا.
رندى وأنوار وأخريات كُثر، هنّ ضحايا الهروب من بشرتهن السمراء، عن طريق استخدام خلطات ومساحيق التبييض، محلية وأخرى مستوردة، والتي تُباع في محلات التجميل والصيدليات بشكل عشوائي، دون أي رقابة.
لون الجلد حسب صبغة الميلانين
يختلف لون الجلد من إنسانِ إلى آخر حسب نسبة صبغة الميلانين، ولا يمكن تغيير لون الجلد الأصلي، إلا عن طريق حبس مادة الميلانين أو إزالتها.
للوقوف على هذه المعلومة، تقول أخصائية الأمراض الجلدية والتجميل في مستشفى عدن الألماني، إسراء الزامل: تختلف درجة لون الجلد من شخص إلى آخر، فهناك الأبيض والحنطي والأسمر الفاتح والمتوسط والأسود الفاتح، وقد صنفت هذه الدرجات حسب نسبة صبغة الميلانين، فأصحاب الجلد الأبيض تكون نسبة الميلانين فيهم قليلة، ومع زيادة صبغة الميلانين يزداد السمار وصولاً إلى اللون الأسود.
وعن مدى تغيير لون الجلد من الأسمر إلى الأبيض تؤكد الزامل بأنه لا يمكن تغيير لون الجلد أبدًا، ولكن يمكن تقريب درجة من درجة، مثل تقريب الحنطي إلى الأبيض، أو يمكن توحيد لون البشرة التي تغيرت بفعل العوامل الخارجية مثل التأثير بأشعة الشمس، وآثار الحمل، وإعادة الحيوية لها، لا بإزالة الميلانين، وأن ما يُقدمنّ عليه النساء من إزالة للميلانين بما يعرف بخلطات التفتيح كارثة صحية كبيرة، تقع على عاتقها عواقب لخلطات التبييض وخيمة.
تزايد حالات التشوة بين أوساط النساء، المترددات على عيادة الأمراض الجلدية في مستشفى عدن الألماني؛ بسبب استخدام كريمات كيميائية تدخل في تركيبها مواد سامة، يتم خلطها مع بعض لتكون أكثر تأثيرًا في إزالة وحبس صبغة “الميلانين”، وأحيانا يكون بقشط طبقات الجلد (skin layers)؛ مما يُعرضه للإصابة بالسرطان والتمغر الجلدي، الذي يُعرف الأخير، بحسب الزامل، بأنه يُشكل خلايا صفراء معقدة، وصعبة العلاج، تحدث بسبب استخدام خلطات التبييض، وأحيانًا بسبب الاستخدام المغلوط لهذه الخلطات.
في نفس السياق، تقول الصيدلانية، شهد يحيى: إن مستحضرات التجميل التي تفتّح البشرة، تعتبر غير آمنة صحيًا وقد أُنتجت لتستخدم عند الضرورة فقط، وبإشراف الطبيب، ولفترة ومكان محددين بمدة العلاج، أما استخدامها رغبة في تفتيح اللون عشوائيًا سيخلّف آثارًا ضارة مدمرة مثل التشققات، والالتهابات الجلدية، والتشوهات، وظهور الهالات، والبقع الداكنة على الوجه والرقبة واليدين.
التضحية بالأصل والمال
وفقًا لدراسة أجراها معهد أبحاث السوق “Strategy MRC” عام 2019، فقد بلغت قيمة سوق منتجات تبييض البشرة على مستوى العالم 4.4 مليار دولار عام 2018، وتتوقع الدراسة أن تنمو هذه التجارة لتصل إلى 8.7 مليار دولار بحلول عام 2027.
وتقول الدراسة: إن المظهر الجسدي وقدرته على الاقتراب من الجمال السائد، يلعب دورًا متزايدًا في تحقيق النجاح الاجتماعي في المجتمعات الاستهلاكية، وتؤكد أن منطقة آسيا والمحيط الهادئ ستعرف نموًا مربحًا في هذا القطاع، فيما تُقدر سوق مستحضرات التجميل العالمية بمختلف أنواعها بحوالي 250 مليار دولار سنويًا.
في اليمن تُنفق المبالغ الباهضة في سبيل المبيضات، وفي ذلك تخبرنا، صالحة، الموظفة في إحدى الدوائر الحكومية بعدن بأن أكثر من نصف راتبها يذهب في سبيل المبيضات، وترفض “صالحة” التخلي عن المبيضات قطعًا، فعندما توقفت عن الاستخدام تغير أصل وجهها الحقيقي بلون آخر؛ مما أُجبرت على استخدامها مرة أخرى بشكل أبدي “بالنسبة لي الكريمات شيء ضروري لقد فقدت أصلي”.
ويوضح الصيدلي وائل الصبيحي عن إقبال النساء لشراء الكريمات بشكل جنوني، كروتين شهري تداوم عليه المرأة في عدن، وأن تلك الوجوه التي تتكرر كل شهر، هنّ نساء بين 15- 40 عامًا، ويختلف الطلب بين الكريمات عالية ومنخفضة السعر، إلا أن الأغلبية يطلبن كريمي الدكتور والتحسس، ومؤخرًا اتجهت النساء إلى المحلات الشعبية، والتي تقوم ببيع الخلطات المحلية سامة المكونات؛ لمفعولها السريع الساحر.
الخلطات الشعبية
لا يخلو أي زقاق داخل مدينة عدن، جنوب اليمن، من محلات الخلطات المحلية، وتأتي الأخيرة على رأس قائمة الخطورة، بحسب شهادة المستهلكين؛ وذلك لكونها تُحضر في المنزل دون رقابة، ولا سابق خبرة ومن ثم يتم بيعها في علب بلاستيكية تحمل لاصقة لاسم الخلطة، دون تدوين أي مادة دخلت في تركيبها، أو نسب أو تحذيرات وفقًا لنصِ المادة رقم (6) من قانون حماية المستهلك رقم (46) للعام 2008.
في هذا السياق تصف فتحية – طالبة علم اجتماع- التحسس الذي تعرضت له عندما فتحت أحد علب خلطات التفتيح المجهولة، والتي قامت بشرائها من إحدى محلات شارع الحب بالشيخ عثمان، وقد أخبرها صاحب المحل بأن هذا الكريم يسمى “كريم العروسة” وأنه سينظفها خلال خمس أيام فقط.
وعن الخلطات المحلية يقول أحد مالكي المحلات في عدن -فضل عدم ذكر اسمه-: إنه يتم إضافة مادة الفلاش المبيضة والأكسجين وكريم الصومالية، والدكتور، والتحسس، ثم تخلط المواد ببعضها بمقادير عشوائية في وعاء مكشوف، وسط هواء طلق محمل بالمكيروبات، ومن ثم توزيعها في علب بلاستيكية صغيرة.
قانون حاضر ورقابة غائبة
التهاون في سلامة البشر ليس وليد اللحظة على المجتمعات، لكن مستوى غياب السلامة يأتي بحسب التقدم الذي تعيشه المجتمعات ومدى استقرارها، فضلًا عن وضعها المادي، وفي اليمن تغيب حقوق حماية المستهلك، رغم وجود ترسانة كبيرة من قوانين حمايته، ونلمح ذلك الغياب على سبيل المثال لا الحصر من خلال بيع وتصنيع كريمات تبييض البشرة المحتوية على المواد السامة والمحظورة دوليًا.
ووفق النتائج التي أظهرتها دراسة بحثية من قبل الباحثة “أميمة أمين” في عام 2014، عندما قامت بفحص عدة كريمات مستوردة وعن مدى قدرتها على كبح الميلانين، تبين بأن كريم الدكتور المصري Spotless الأكثر مبيعًا في الأسواق اليمنية يحتوي على نسبة عالية من الزئبق.
وعن نوعية وعدد الكريمات التي شملها البحث تقول آمين إن بحثها أخذ عينة قليلة من الكريمات، حيث أنه في عام 2014 كانت الكريمات والخلطات قليلة، وقد ظهرت آلاف الأصناف إلى اليوم.
وتضيف أمين في حديثها أنه رغم نتائج الدراسة التي أظهرت وجود الزئبق في Spotless إلا أن الجهات المختصة لم تأخذها بجدية، ومازال Spotless يلاقي رواجًا في الأسواق والصيدليات إلى اليوم.
ونصت مواد قانون حماية المستهلك رقم (46) لسنة 2008 على ضرورة الإشارة إلى مكونات أي مواد يتم بيعها للعامة إلا أن غياب الجهات الرقابية جعل من القانون عبارة عن ورق.