أصواتٌ من اليمن | نغماتٌ حزينةٌ تُقاوم التهميش
لا يزال الغناء أحد وسائل الترفيه للإنسان لا سيما النساء لكونهن الأكثر عرضةً للتهميش الاجتماعي، لكن ذلك يجعلهن أكثر إبداعًا نظرًا للمعاناة والكبت الداخلي وطريقة العيش ومكافحة الفقر المدقع المحيط بهن. ومنذ قرون من الزمن امتهنت النساء من ذوي البشرة الشديدة السُّمرة في اليمن، مهنة الغناء ودق الدفوف و الطبول المختلفة في الأعراس بوصفها موروثًا شعبيًّا. يصل عدد المهمشين في اليمن إلى (3،500،000) نسمةً وفق إحصائية الأمم المتحدة، ويصل عدد النساء السمر إلى (1،235،000) امراةً وفق إحصائية تقديرية لجمعية كفاية التنموية.
الهواية والميول الفني
الفنانة سمر أحمد علي عبده، الملقبة “السمرين” تبلغ من العمر 44 سنة، من عزلة قدس المواسط، جنوب مدينة تعز، تقول: “ورثت الفن عن أمي وعمري 11 عامًا، كنت أذهب إلى الحيد (مكان بين الصخور) وأدق (بتنك) وهي إناء حديدي فارغ، والدبة، وهي وعاء بلاستيكي يحفظ المياه، حتي تعلمت العزف والغناء. وعندما كبرت كنت أذهب مع أمي وأبي إلى الأعراس وأغني وأدق بالطبل والمرفع والطاسة.” وتضيف: “كنت أرعي الأغنام وأدق بالتنك أو الدبة وتتجمع بجانبي النسوان لسماع غنائي وعلي قول المثل الشعبي (فكيهة في بلد العميان)”. وترى الفنانة سمرين بأن دق الطبول رزق نعيش علية وتراث لا نريد أن ننساه نحن ولا أولادنا”.
الفنانة اعتماد جرمي محمد سالم، تبلغ من العمر 35 سنة من مواليد دار سعد – الشرقية – محافظة عدن، تقول: “عشقت الفن والغناء في مرحلة الشباب بمختلف الألوان اللحجي، الحضرمي، الصنعاني، وغنيت في مخادر عند الأعراس. وكمان غنيت مع الفنانة وفاء جوهر وباسم وأبو فهمي”. وتضيف: “أستطيع أن أغني للفنان أبو بكر سالم، والفنان محمد سعد، والفنان صالح الأعمى، لو توفرت الأدوات الفنية والدعم المادي، لكن للأسف نحن الفنانات السُّمر لم نحصل على الدعم والتشجيع”. وتستمر في قولها “تزوجت في مدينة تعز واستمريت أغني في الأعراس وغنيت مع الفنانة نوال العدني في صالات كبيرة. ومنذ ثلاثة أشهر سقطت علي الأرض وأصبت في عيني اليُمنى؛ مما أدى إلى قلعها واحتاج لتركيب عين صناعي وسوف أستمر في الغناء”.
أغانٍ سمراوات يثرن الشجن
تزخر الذاكرة الفنية بأصوات فنانات سمراوات كثيرات منذ زمن طويل مثل الفنانة سعدة العدينية في محافظة إب، والفنانة إيمان القباطي، والفنانة فايزة عبد الله ناجي، والفنانة طليعة، والفنانة محلية في شرعب وهن يغنين بالطبل والطار والمرفع ” حريوتنا نادية، يا قبوة الكاذية. رشو عطور الكاذية علي العروس الغالية، ادعو لها بالعافية. وأثناء زفاف موكب العروس ” أحوطك بالله و الزين.. وابن علوان و العيدروس برأس جبل شمسان، احوطك بالنبي وجميع الأولياء. عروسة حلا يا سلوس الجنبية.. زوجة تقدم دفع مليون ومائة. ومن أشهر أغاني الفنانة سعدة العدينية ألا دلا دلا ومنعنع وطويل.. لا تهدم الحيد تحتك مسلمين ” وأغنية الفنانه نعائم الزبيرية “ألا ونوم ونوم.. من عيني تبات شارد.. إلا أحرقت قلبي.. فكيف قلبك شبات بارد.. دني لو الليل والا داناة. ألا يا أخضر اللون وقلي أيش مطلوبك.. ألا تأكل وتشرب وحسك عند محبوبك ” وأغنية السمرين ” الليله يا ابو علي من بحرك الليلة شنشرب.. شربة تطفي اللهيب. وكله لا أحلي من المسك و أغلي.. يانفحتي والسلا ” وأغنية ” ودان ولي ودانة الجيد يكبك ولو كان في العصا دوار.. والفسق يكبك ولا تستعيره مسمار ”
دفوف في زفة العريس والعروس
خصصت الدفوف والطبول بوصفها مهنة قديمة. للنساء السود وفق عرف قبلي قديم. يحمل في طياته سلوكًا تمييزيًّا ذا طابع عنصري مورس ولا يزال على الفئات الأكثر تهميشاً في اليمن. فقد تم تقسيم المناطق والقرى بين المهمشين رجال ونساء تحت مسمي (المخادم) بصكوك قديمة، فالنساء يقمن بالغناء والرقص في (المخدم) المخصص لها ولأسرتها. فأصبح الغناء والرقص متوارثان جيلًا بعد جيل وأصبح جزءًا من الثقافة الشعبية بالضرورة. حضور الدفوف والطبول مع المغنيات السمر في الأعراس منذ ليلة السهرة للقيام بالغناء بأبيات شعرية تمدح فيها العريس مثل “ومشوقة لما حزب.. بالسيف و الجنبية.. الجنبية محلية والسيف بأربع مائة” وسيدي جدودة مائة.. مشائخي وافية.. ما ينبلو إلا الرصاص ”
إحياء التراث الشعبي
الناشطة الحقوقية ريمان حميد علي، تقول: “تتم عزومة الفنانات السمر في الأعراس؛ لإحياء حفلة العريس والعروسة بالأغاني الترحيبية بالضيوف والقبيلة ومدحهم فيقوم الضيوف بتشجيع المغنيات بمبلغ رمزي يسمى (الديارة) لا يكفي لتوفير احتياج الفنانة وأسرتها”. وتضيف: “يوجد تمييز عنصري في أجور الفنانات السمر مقابل غيرهن من الفنانات الأخريات”.
مدير عام مكتب الثقافة بمحافظة تعز، عبد الله العليمي، يقول: “توثيق الأغاني الشعبية ضمن اهتمامنا وتعز مليئة بالتراث الشعبي وخاصة في الأرياف، ونجدها متوفرة عند النساء السمر نتيجة تنقلهم من مكان إلى آخر”. ويضيف: “نجد أن الأغاني الشعبية عند الفنانات المهمشات لم يلقَ أي اهتمام من المؤسسات الفنية أو الحكومة نتيجة اللامبالاة وهناك أغانٍ تؤخذ وتحفظ، وأغانٍ اختفت نتيجةً لوفاة كبار السن ولم توثق”.
إبداع من وسط التمهيش
تواجه الفنانات السمر عادات وتقاليد لا تسمح لهن بالازدهار والتطور والظهور حسب وصف الناشطة، ريمان حميد، وترى أن ذلك يعود إلى النظرة الدونية والفقر والانتقاص رغم أن الفن وسيلة مهمة للتعبير عن الذات والتواصل مع الآخرين. وتؤكد الفنانة اعتماد بقولها “لدينا موروث فني كبير ولكننا نعاني من نسيان وإهمال لنا لأننا ننتمي لسود فما تازل ثقافة التمييز والكراهية موجودة. لم نحصل على تشجيع من الحكومة ويعود الفضل لنا أي (الفنانات السمر) بالاحتفاظ بالأغاني القديمة مثل الدان، الدودحية، والرقصات الشعبية كا الزبيرية ،الشرح، …الخ.
جميل المصعدي – صحفي مهتم بالأغاني الشعبية يقول: “للأسف لم يتم الاهتمام بالأغاني والأهازيج الشعبية في بلادنا بسبب عدم وجود رؤية بالموروث الثقافي للبلدان والاحتفاظ به وتنظيمه ودعمه مثل بقية البلدان الأخرى بسبب العرف الاجتماعي الذي يرى بأن الفن عيب وخاصة عندما يكون مصدره النساء وخصوصاً النساء المهمشات”.
إرادة وإصرار
تقول الفنانة اعتماد: “منذ أن بدأت أغني لقيت الدعم والتشجيع من أهلي والمحيطين بي والإعجاب بصوتي وكنت أحصل على دعوات كثيرة لحضور حفلات الأعراس”. تأخذ نفس عميق وتواصل الحديث لميديا ساك: “في عدن خصوصاً والجنوب عموماً يختلف التذوق الفني عن الشمال فقد حصلت على التشجيع من كل الناس ما فيش فرق بين بيضاء وسمراء على العكس من هنا لا يوجد أي اهتمام بالفن وبالذات الفنانات السمر”.
عبد الرحمن الهرش – ناشط مدني يرى: “بأن اليمن تفتقر إلى الموسيقى بسبب وجود العرف الاجتماعي وبالنسبة للفن والغناء للنساء السود موجود لكنه في دائرة اللامبالاة. وعدم الاهتمام من الجهات الرسمية. ويعد هذا أحد مظاهر التمييز العنصري الممارس ضد المهمشات رغم وجود أصوات كثيرة وجميلة لكنها غير موثقة وربما تعرضت لسرقة الفنية هنا وهناك”.
نظرة المجتمع للفنانات السمر
فتحية القدسي، ناشطة اجتماعية تقول: “تسود في المجتمع نظرة دونية للفنانات السود بسبب العرف والعادات نتج عنها نظرة فوقية ضدهن و احتقار ممنهج وعنف، يصل عدد الفنانات السمر اللواتي يغنين في الأعراس في مدينة تعز والريف إلى 21 فنانة. وتبرز أهمية مشاركتهن لإتمام الفرحة والسرور في الأعراس وفي الوقت نفسه التهميش لهن كفاعلات لهذا الطرب والغناء يعني انتقاص في التراث والمواطنة المتساوية للنساء السمر”.
تُجسّد تجربة النساء السمر المغنيات في اليمن نموذجاً ملهماً للصمود والإبداع في وجه التهميش والظروف الصعبة. فمن خلال الغناء، تُعبّر هذه النساء عن مشاعرهنّ وتجاربهنّ، وتُحافظن على تراثهنّ الثقافي، وتُقاومن الإقصاء الاجتماعي.
إنّ أصوات النساء السمر تُشكّل جزءاً لا يتجزّأ من الهوية اليمنية، ويجب على المجتمع أن يُقدّر هذه الأصوات وأن يُساهم في دعمها وحمايتها.
( تم إنتاج هذا التحقيق ضمن مشروع غرفة أخبار الجندر اليمنية الذي تنفذه مؤسسة ميديا ساك للإعلام والتنمية)