مواد غرفة أخبار الجندر

15
فبراير

حبيسات الدُّور يمُتن عذارى

 شيماء القرشي

أربعين سنةً ونيّف قضتها أميرة (اسم مستعار) حبيسة منزل والدها في منطقة سنحان (جنوب صنعاء) تعُدّ فيها فصول حرمانها العمدي من حقها في الزواج من قبل والداها الذي لم يطل به العمر حتى وافاه الأجل في خريف 2020، تاركاً وراءه ثروةً _لا بأس بها_ كان هاجس تبديدها سببًا في امتناعه عن تزويج ابنته كلما تقدّم لخطبتها عريسٌ محتمل.

ورغم أن أميرة كانت خارج القسمة في الميراث الذي استأثر به إخوتها الذكور بعد وفاة والدهم، تبددت أحلامها في تكوين عائلة كسائر نظيراتها من النساء، بعد أن عارض إخوتها تزويجها كدأب والدهم، طمعًا في نصيبها من ميراث أمها هذه المرَّة، التي _للمفارقة_ ما تزال على قيد الحياة.

تقف أميرة أمام المرآة كل يوم تقريبًا تحصي تجاعيد وجهها بعد أربعين سنة تقول إنها قضتها كـ “الخادمة” بذنب كونها أنثى، شأنها في ذلك شأن نساء كثيرات في مناطق مختلفة من اليمن، تعرضن للعضل (والعضل هو الاصطلاح القانوني والشرعي لحرمان المرأة من حقها في الزواج من جانب وليِّ أمرها)، لأسبابٍ شتى، ليس الميراث إلا واحدًا منها.

من جملة أولئك النسوة، تمكنت معدة التحقيق من رصد تسع حالات “عظل ولي” لفتياتٍ تجاوز عمر بعضهن الأربعين سنة، لم يتزوجن بعد بسبب تعنُّت من له الولاية عليهن، كانت معظمها من جهة الأب. إذ إن القانون اليمني والعرف والشريعة الإسلامية التي يتكئ عليها القضاء والمعاملات المدنيّة في اليمن، لا تقرّ أي عقد زواج دون وليّ للمرة، وهو الذكر البالغ من قرابتها، تبدأ بالأب ثم الأخ أو الابن ثم الأقرب فالأقرب، من الدرجة الأولى إلى الدرجة الرابعة.

ويحق للفتاة التي تعرضت للعضل، اللجوء إلى القضاء لانتزاع حقها بسلطة القانون، حيث يصبح القاضي مخولًا بتزويجها للشخص المناسب. اللافت أن حالتين فقط _من أصل تسع حالات عضل تم رصدها_ تجرأتا على طلب الانصاف من القضاء عبر تقديم دعوى “عضل ولي”. ويبدو ذلك أمرًا مبررا بالنظر إلى حساسية الموضوع والاعتبارات العرفية التي تقف سدًا سميكًا أمام أي فتاة تحاول الإفلات من هيمنة “الولاية الظالمة”.

جدير بالإيضاح، أن قانون الأحوال الشخصية اليمني ينص في البند رقم (2) من المادة (18): “إذا عضل ولي المرأة أمَرَهُ القاضي بتزويجها، فإن امتنع زوَّجها القاضي بمهر أمثالها لرجل كفء لها”.

في حين تنص المادة رقم (19) من ذات القانون: “يعتبر الولي عاضلاً إذا امتنع عن تزويج المرأة، وهي بالغة عاقلة راضية من كفء، إلا  أن يكون ذلك منه تريثا  للتعرف على حال الخاطب، على أن لا تزيد مدة التريث على شهر”.

مجرد يد عاملة ورقم في العائلة

فاطمة – 44 عامًا، حرمت هي الاخرى من الزواج لسنوات طويلة بسبب خوف اسرتها على ضياع الميراث، فلم يكن منها بعد ان اشتد شعورها بالظلم الا ان تلجأ للقضاء لينصفها، اواخر ديسمبر من عام 2023م.

حيث تقول” عشت لسنوات طويلة محرومة، كنت ارى جميع الفتيات يتزوجن وينجبن، كنت اتألم كثيراً حينما ارى تقدمي في السن دون شفقة من ابي واخوتي الذين مارسوا حياتهم بكل ما فيها، بل وتزوجوا وأنجبوا والان يقومون بتزويج بناته.

 تضيف ” لم يتركوا لي شيئاً سوى قلادة ذهبية، وغرفة مبنية في فناء المنزل قالوا هذه لك وكأنها مقابل حبسهم لي وهدرهم لشبابي ولضياع حقي بأن اكون ام”.

لا يختلف الحال كثيرًا لدى أمل (اسم مستعار)، التي تملك مع شقيقتها أحد الحمامات العامة التي تتوافد اليه النساء والعرائس قبيل الزفاف شرق صنعاء، إذ تجاوز عمرها خمسين عاماً، وما تزال عزباء، حرمها والدها ذو التسعين عاماً هي وشقيقتها من الزواج بعد ان اعتبرهما مصدراً مدراً للدخل، ويخشى في حالة تزوجيهن انقطاع العائد الذي تجلبه إليه بنتاه العاملتين.

العبور من ثغرات القانون

المحامية ندى التام وهي محامية عُرض عليها عدد من قضايا عضل الولي في محكمة جنوب شرق الامانة في صنعاء، تقول: “رغم توفر النصوص القانونية في قانون الأسرة التي تعطي الفتاة الحق بالتقدم لرفع دعوى عضل ولي على وليها في حال رفض تزويجها، إلا أنه مازال لا يتوفر حماية قانونية تضمن لهؤلاء الفتيات السلامة النفسية والجسدية أثناء فترة المحاكمة، كون ما نسبته 80% منهن، يتعرضن للضرب أو الحبس أو الإهانة أو تشويه السمعة من جانب ذويهن إذا لم يصل الأمر إلى القتل  كما حدث أواخر عام 2018 مع الفتاة التي طعنها اخوها في قاعة المحكمة وارداها قتيلة”.

تضيف التام، رغم أن القانون اليمني وضع نصوصاً تفيد أن لا يؤخذ الأصل بالفرع في حالة القتل او التعدي،  إلا أنه في السنوات الاخيرة صارت عقوبة الوالدين في حالة القتل او الاعتداء الجنسي الاعدام ولكن هناك أيضاً نصوصًا في القانون تجعل من حق ولي الدم القصاص او الاعفاء، لذلك حينما يقوم احد الابناء بقتل اخته نظير تقدمها بدعوى العضل وطلب تزويجها من قبل القاضي فإن الاب يستطيع طلب العفو وبذلك تكون دماء الفتاة قد اريقت بدون عقوبة تماماً كما حدث في حادثة الطعن في محكمة جنوب شرق الامانة بصنعاء ولذلك يجب تضمين نصوص تضع قواعد وعقوبة مختلفة لمثل هذه الجرائم.

مصير مجهول وتعنيف وضرب

رغم انتشار ظاهرة حرمان الفتيات من الزواج من جانب أوليائهن في مناطق ومدن مختلفة من اليمن، وعلى نطاق مقلق، إلا أنه من الصعب الإحاطة بالنسبة العامة لعدد أولئك الفتيات، نظرًا لكون هذا الموضوع أحد أكثر المواضيع التي تحاط بالتحفظ الشديد في المجتمع اليمني، نظرًا لحساسيتها وتبعاتها المرتبطة بسمعة العائلة.

إلى جانب أن الحالات التي يتم عرضها على القضاء تكون محدودة جدًا، ويُنظر إليها كحالات شاذة في أغلب الأحيان. بالتحري عن الموضوع في ثلاث محاكم ابتدائية بصنعاء، وثَّقتْ معدة التحقيق 6 قضايا عضل ولي رفعت من قبل فتيات إلى محكمة “شمال الأمانة”، خلال الفترة ما بين 2019م _ 2024.

هذا الرقم الظاهر للعلن يعد ضئيلًا بالمقارنة مع حجم الظاهرة، التي تظل أغلب ضحاياها حبيسة الكتمان، تحاشيًا لما قد ينجم عن البوح بها أو رفعا إلى القضاء من تبعات قد تصل إلى القتل أو التعنيف المفرط في أحسن الأحوال للضغط على الفتاة لسحب الدعوى.

حيث كان لافتًا أن جميع القضايا الست _التي تم توثيقها_ تم انهاؤها بـ”قرار شطب” من المحكمة، وجمعيها تم شطبها لسبب واحد، يتعلق بغياب مقدمة الدعوى عن حضور المرافعة أمام المحكمة، الأمر الذي يضع أكثر من علامة استفهام عن مصير أولئك الفتيات اللائي قررن أخذ حقهن باللجوء إلى القانون، ثم اختفين فجأة وأغلقت قضاياهن.

والحقيقة أن سحب الشكوى أو الغياب عن الجلسات، يعد أمرًا متوقعًا بالنظر إلى الواقع الاجتماعي في اليمن، بحكم أن الفتاة التي تتجرأ على تقديم دعوى العضل ضد ولي أمرها الذي تعيش معه تحت سلطانه في ذات المسكن وتحت ذات السقف، تعد مجازفة لها تبعاتها الخطيرة، ولاسيما إذا أخذنا في الاعتبار عدم وجود أي نوع من الحماية القانونية التي تكفل للفتاة التي تتجرأ على تقديم الشكوى إلى القضاء عدم التعرض لأي أذى، أو وضعها في مُعتَزل تابع للمحكمة إلى حين الفصل في القضية.

دون ذلك، يصبح من البديهي أن تتعرض الفتاة للضغط والتعنيف وربما التصفية بالقتل أو السم، من جانب ذويها في العائلة، خصوصًا أن الانطباع المتداول على مستوى المجتمع في ما يتعلق بلجوء الفتاة إلى طلب الانصاف من القضاء، يعد من الأمور التي يتم التعامل معها على كونها من الأمور التي تمس شرف وسمعة العائلة، تمامًا كما حدث مع ابتهال (اسم مستعار) التي تقدمت إلى المحكمة بدعوى “عضل ولي” بعد أن قرر والدها إجبارها على فسخ خطوبتها، باستخدام الضرب والتعنيف، مما دفعها للهرب من المنزل وما يزال مصيرها مجهولًا حتى الآن.

تبعات سيكولوجية واجتماعية

لا يقتصر حرمان المرأة من حقوقها الفطرية في الحياة وتكوين عائلة على البعد الاجتماعي فقط، بل يحمل تبعات لا تقل خطورة على المستوى النفسي، ويزيد الأثر مع التقدم في العمر، حيث توضح الأخصائية النفسية إيمان البريهي، أن حرمان المرأة من هذا الحق قد يخلق شعورًا متراكما بالوحدة والانعزالية، وتراجع الثقة بالنفس، وتقلب المزاج، بسبب الفراغ العاطفي الذي قد يجعلها عرضة للابتزاز الأخلاقي، وربما تكتسب طباع حادة مثل العصبية، وتتعرض أكثر من غيرها للقلق والخوف من المستقبل.

“يجب ملاحظة أن هذه الآثار ليست ثابتة وقد تختلف من شخص لآخر، لكن المؤكد أن النساء المحرومات من الزواج اجباريًا، يصبحن أكثر عرضة من غيرهن للضغط الاجتماعي، والضغوطات النفسية”، تستدرك البريهي.

من جهته يشير الدكتور صلاح الحقب المختص في علم الاجتماع، إلى وجود أسباب اقتصادية واجتماعية، تنشأ عليها ظاهرة “عظل الولي”، يلخصها في أربعة محاور _بحسب الحقب_ كالتالي:

الاول: قائم على حرمان المرأة من اختيار شريكها بنفسها. وهذا أحد اسباب (العنف الاجتماعي والنفسي) السائد في مجتمعنا (الذكوري). فالمرأة مجردة من أحقية اختيار شريكها، شأنها شأن الذكر في ذلك. انما يقتصر دورها على القبول او الرفض للذكر المتقدم فقط. وهذا عنف اجتماعي خفي، برأيي، يساهم ويساعد في حرمان حصول المرأة على فرصتها بالزواج. او بالأحرى تأخر حصولها عليه. لأنه يظهرها كسلعة قابلة للشراء من عدمه!!!

الثاني: قائم على سيادة (التفاوت الاجتماعي او الطبقي) في مجتمعنا، على سبيل المثال: قد يرفض رب الاسرة القبيلي اقامة زواج ابنه او ابنته من شاب او شابة، تنتمي لشريحة اجتماعية أدنى عرفياً.

الثالث: تفاوت النوع الاجتماعي المتصاعد حالياً بفعل الحرب، زيادة عدد الاناث بسبب زيادة وفيات الذكور).  إذ أن فقدان أحد الشباب الذكور في ميدان المعركة يؤكد حتماً، فقدان إحدى فتياتنا بالحصول على فرصتها بالزواج.

الرابع: زيادة الاعباء الاقتصادية وقلة دخل الاسرة، يدفع الكثير من الاباء لتجيير عملية الزواج بشكل تجاري لغرض الربح. وهذا امر ايضاً قد يساعد على حرمان الفتاة من الزواج او تأخر حصولها عليه”.

في كل الأحوال، لا تعد أميرة وفاطمة وابتهال ونظيراتها الست التي وقفنا على قصصهن، سوى نقطة في محيط متلاطم من عدد يستعصي على الحصر من الفتيات اللائي أذعنَّ لقهر أوليائهن دون حولٍ ولا قوة، وقررن العيش بأحلامٍ مبتورة، وأفقٍ لا يُفضي إلى أمل.

(تم انتاج هذه المادة ضمن مشروع غرفة أخبار الجندر اليمنية الذي تنفذه مؤسسة ميديا ساك للإعلام والتنمية)

اشترك

اشترك في قائمتنا البريدية