السيدة (س. ع. ب): صوت النساء في زمن اللا صوت!
الزمــان: 1933م.
المكان: الشحــــــر.
ربما كان السيد عبد القادر بامطرف، يعد الليالي، ويحسب الدقائق، ويناظر الساعة كل حين. لقد توقَّع أن تضع زوجته مولودتها الجديدة في الساعات الأولى من الصباح، لكن قدَّر الله أن تكون الولادة في ساعة متأخرة من الليل. الحمد لله على السلامة، لقد أطلقت المولودة -أخيرًا- صرخة القدوم إلى الحياة. لم يعلم السيد عبد القادر بامطرف أن ثمة صرخات ستتبع هذه الصرخة، توجهها المولودة “سلامة” إلى المعنيين في السلطنة القعيطية، لا عن عداوات شخصية، أو صراعات قديمة، بل من أجل مناصرة قضايا الفتاة الحضرمية التي لطالما ظلَّت على هامش المجتمع، أو في منزلة دون الرجل في أحسن الأحوال! لهذا قرَّرت أن تكون صوتَ من لا صوتَ لها، وسندًا لمن أوشك الواقع أن يسقطهن!
ولدت الرائدة الحضرمية سلامة عبد القادر بامطرف رحمها الله في مدينة الشحر سنة 1933م، وانتقلت مع أسرتها إلى المكلا عندما انتقل عمل أخيها محمد عبد القادر بامطرف إلى المكلا. وهناك التحقت بالمدرسة الأهلية التي أنشأتها دورين انجرامز زوجة المستشار البريطاني هارولد انجرامز، ثم التحقت بالمدرسة الابتدائية للبنات التي كانت تديرها المربية الرائدة المرحومة فاطمة عبدالله الناخبي. وعندمـا أنهت سلامة الدراسة بتفوق انتدبت للتدريس في المدرسة التي تخرجت منها، وظلت تمارس مهنة التدريس إلى أن تزوجت من المرحوم أحمد سعيد حداد الذي كان متعهد صحف وكتب ووكيلا في حضرموت لمؤسسات النشر في مصر ولبنان. وقد وفر أحمد سعيد حداد لسلامة مختلف أنواع المطبوعات التي تصله من الخارج، كتبا وصحفا ومجلات، وهو ما أكسبها ذخيرة علمية وثقافية عالية، مكنتها من الولوج إلى عالم الكتابة في الصحف الصادرة بالمكلا في ستينيات القرن الماضي، وقد نشرت في صحيفة (الرأي العام) عددًا من المقالات، معظمها في باب خاص يحمل عنوان (من وراء النوافذ المغلقة). وكانت توقع كتاباتها بـ (س ع ب). ومن أهم القضايا التي طرحتها في الصحف: حق ابتعاث الطالبات للدراسة في الخارج لمواصلة تعليمها أسوة بأخيها الطالب.
ولأن سلامة قد حصلت على قسط من التعليم مكنها من تثقيف نفسها، والنهل من ينابيع المعرفة، فقد أدركت من أهمية التعليم وقيمته للمرأة الحضرمية في حاضرها وفي مستقبلها، وفي الارتقاء بحياتها الخاصة بل وفي حياة المجتمع كافة، وفتحت بكتاباتها الجريئة النار على النظرة الدونية تجاه المرأة وحرمانها من التعليم، وانتقدت الطريقة التي كان الرجل يتعامل بها مع المرأة، ولم تسلم من سهام نقدها العوائق الاجتماعية والقيود المتدثرة تحت عباءة العادات والتقاليد، ذلك أنه حتى ستينيات القرن العشرين الميلادي كان تعليم الفتيات أو ذهابهن إلى المدرسة يعد خروجًا على تقاليد المجتمع في ثقافة الكثيرين، ولم يكن يتعلم منهن إلا القلة القليلة، ولهذا كانت الدعوة والحض على تعليم المرأة ضمن اهتماماتها الرئيسة في معظم كتاباتها، وحذرت من عواقب حرمان المرأة من التعليم، وتأثير ذلك سلبًا على اُختص ذكوره بالعلم وإناثه بالجهالة المطبقة.
وتحت عنوان (الفتاة الحضرمية صفر على اليمين) على صحيفة الرأي العام، كتبت: “إننا نؤيد -بشدة- كل المحاولات التي جنَّد لها الكتاب أقلامهم من أجل تبصير أبناء هذا الشعب ومسئوليته بالعواقب الوخيمة التي تعود على الأمة من جراء حرمان المئات من الأطفال الأبرياء من حقهم الطبيعي في التعليم ما لم يتكاتف أولئك جميعًا ويبذلوا الجهود المخلصة لإيجاد وتنفيد الحلول العملية التي تمكنهم من التغلب على هذه المشكلة العويصة”
ووجهت اللوم إلى حاملي الأقلام الغيورين على مصالح الأمة، وتساءلت: “هل كتب على الفتاة الحضرمية أن تشاهد ركب الحضارات العالمية يمر أمامها وهي قعيدة عاجزة عن اللحاق به؟!، إننا لم نسمع بمن يطالب بفتح المزيد من المدارس المتوسطة للفتاة، اللهم تلك المناقشات على صفحات (الرأي العام) حول تعميم البنت الصغيرة والولد الصغير في مرحلة التعليم الأولية، وربما كان ذلك حلاًّ لمشكلة التعليم الابتدائي فقط، وبعدها تتخلف الفتاة عن اللحاق بزميلها لتحجز في البيت بينما يواصل الفتى تعليمه، ولم نسمع -حتى الآن- بمن يطالب -جديًّا- بتوفير التعليم بكل مراحله للفتاة أسوةً بالفتى. فماذا بالله سينتهي مصير شعب اختص ذكوره بالتعليم وإناثه بالجهالة المطبقة؟ سوف يترتب على ذلك نفور فتى المستقبل من الزواج، وحتى لو فكر بالزواج فإن تفكيره سوف يتجه -حتمًا- نحو فتاة مثقفة متعلمة واعية ولو اضطر إلى البحث عنها خارج حدود وطنه، ومن ثم سيترتب على ذلك تفاقم عدد أرقام العوانس وارتماء البعض الآخر تحت أقدام أول طالب زواج يطرق عليهن الباب، ويجب أن نضع في أذهاننا أنه لن يتقدم للفتاة الجاهلة في المستقبل سوى الشيوخ من ذوي العقليات المتخلفة. تُرى، هل وضع الرجال كل هذه الاعتبارات في أذهانهم وهم يقومون بالحملة تلو الحملة لصالح الفتى وحده؟ ونحن -معشر النساء- لا اعتراض لنا على ذلك، ولكن أليس من حقنا أن نتساءل ونقول: إلى متى سنظل أصفارًا على يمين الأرقام؟!”.
وإلى جانب تعليم الفتاة في الداخل، أثارت سلامة مسألة ابتعاث الفتاة للتعليم في الخارج، والذي كان حتى ذلك الحين حكرًا على الأولاد، وتصدرت لهذه القضية بكل جرأة في مقالة طويلة بعنوان (دعوا الفتاة تتعلم في الخارج) تحدثت فيه عن أهمية التعليم في وقتنا الحاضر، والذي أصبح من ضروريات الحياة، بل أنه صمام أمان لحياة الإنسان، وسلاح في يده يقيه تقلبات الأيام وغدر الزمان من غير أن يضطر إلى إذلال نفسه، وإراقة ماء وجهه، فالعلم هو حفظ كرامة الإنسان -رجلاً كان أم امرأة- مصانة لا تهان. ولاحظت أن الناس انتبهوا -أخيرًا- إلى هذه الحقيقة، فتسابقوا إلى تسجيل أبنائهم بالمدارس، واهتموا بإرسال أبنائهم في بعثات إلى الخارج؛ لينالوا حظًا أوفرًا من العلم. لكن الأمر اقتصر على الأبناء دون البنات، وهذا مما يدعو إلى الأسف، ويعطينا أصدق صورة على أن الرجل لم يتسنَّ له الخلاص ولو من بعض رواسب الماضي الكريهة، حيث ينظر للمرأة على أساس أنها تابع للرجل، ومكانتها دائمة لا تزيد عن مكانة الخادم من المخدوم.
وقد لقيت هذه الدعوات لابتعاث الفتيات للتعليم خارج حضرموت استجابة مشجعة وبدأت تؤتي أكلها؛ حيث قامت إدارة المعارف بالمكلا بابتعاث 6 طالبات إلى عدن للدراسة والتدريب، وهذه خطوة جبارة في سبيل رفع مستوى تعليم البنات في حضرموت، تلى ذلك سفر أول بعثة من الطالبات الحضرميات إلى العراق للالتحاق بالمدارس المتوسطة في بغداد، ثم مغادرة 5 طالبات حضرميات إلى السودان للالتحاق بالمدارس المتوسطة هناك”.
ومهما تغيرت السلطات، أو تبدَّل نظام الحكم في الدولة، تبقى العظيمة سلامة عبد القادر بامطرف -كما هي- نصيرة المرأة على الدوام، وذلك مبدؤها الذي ظلَّت متمسكةً به حتى وفاتها يوم الجمعة الثاني من رمضان سنة 1436 هجرية الموافق للسابع عشر من يوليو عام 2015م. بعدها دُفِنَ جسدُها في التراب، أما روحها فما تزال ماثلةً أمامنا كل حين؛ فكل فتاة حضرمية تواصل -أو تُكمل- دراستها في الخارج، إنما هي امتداد لما كتبته “سلامة” في صحيفة الرأي العام الحضرمية ذات زمن!