ظلمات مركّبة.. من معاناة الكفيفات بريف اليمن
تعاني المرأة الريفية في اليمن صعوبات في حصولها على حقوقها من تعليم وصحة ورعاية، وتزداد تلك المعاناة حينما تكون المرأة كفيفة، لتدخل في مأساة تقبّل المجتمع لإعاقتها وتنمّر وإقصاء المجتمع لها من دون الإلتفات إلى نفسيتها وما تشعر به.
قلة توفر الخدمات للكفيفات يفاقم من صعوبة وصولها إلى المراكز التي تهتمّ بهن، فالجمعيات مع قلتها تكون في المدن، ويصل عدد المستفيدين إلى عشرة آلاف كفيف وكفيفة لخدمات المراكز الخاصة بتعليم وتأهيل المكفوفين في اليمن، وذلك من إجمالي 80 ألفا، وفقا لصباح حريش رئيسة جمعية “أمان” لرعاية الكفيفات بصنعاء.
لم تكن مرام (اسم مستعار) الفاقدة لبصرها تعلم أن لها حقوقا وعليها واجبات كما بقية البشر، بل ظلّت تظنّ أن الكفيفة عليها أن تعيش بين ظلمات النظر والحياة معا.
مرام ذات العشرين عاما من ريف ناءٍ بمحافظة عمران، وُلدت فاقدة لبصرها (كفيفة) بين ثلاثة أشقاء ذكور وأختين يكبرونها جميعا، وجميعهم أصحاء بينما هي تفتقر للتحرّك بحرية من دون مرافق يعينها على ذلك. تحكي العشرينية وعيونها تنهمر بالدموع قائلة: “ولدتُ كفيفة، لكن لدي مشاعر وأحاسيس. أشعر بكل شيء وأتألم لكلامهم”. وتشكو مرام من أنها لم تنل حياة أسرية مساندة، فتحكي قصتها قائلة: “أخوتي كانوا يتهامسون عليّ ويسخرون وينتقصون مني، ولم يكن أحد يلعب معي أو يحادثني وأنا صغيرة، تملّكني الشعور بالوحدة والسبب أنني كفيفة، حتى المدرسة حُرمت منها بذريعة أنني لن أستطيع الفهم.
لا أعلم كيف استطاعوا الحكم بأنني غبية، ولا يحقّ لي أن أتعلّم.
كنتُ دائما أشعر بظلمات كبيرة، ليس في عيني فقط، بل في عقلي، وحده الراديو الذي كنتُ أشعر بأنّه يخاطبني.
تحمّلت نظرة الاستنقاص والشفقة من جميع المحيطين بي، وهي تكرر أنني أقل منهم، حتى مع تنفيذي لبعض الأعمال المنزلية والحفظ والفهم السريعين، جعلتني تناقضات المجتمع المرعبة في ذهول، فبالأمس كنت مختلفة ولا أصلح لشيء، واليوم يصدر قرار تزويجي من رجل يكبرني بعشرين عاما وأنا في السادسة عشر من عمري.
حينما أخبرتني أمي أن عرسي بعد أسبوع، لم تمنحني ثانية لأرفض أو أقبل.
قالت لي: (احمدي الله أنك ستتزوجين وأنت عمياء، لكن الرجل زوجته الأولى لا تنجب وهو يريد عيالا). تزوّجت مكرهة، وكان زوجي وضرتي وأهله يعاملوني معاملة سيئة جدا، وكأنني لست إنسانا وكأنه لا شعور لدي. كانت ضرتي تقول: (ستنجبين الولد وتتطلقين. ما كان زوجي ليتزوجك إلا لأجل العيال، وإلا فمن سيراك).
كنت أشعر بضغط نفسي وحزن. لا أستطيع الرجوع لأهلي ولا الاستمرار في زواجي الكئيب. بعد زواجي بشهرين، شعرتُ بالحمل وكنتُ أبكي ليل نهار. لا أريد أن يكون لي طفل؛ لأنهم سيأخذونه مني بعد ولادته. صحيح أني لن أستطيع أن أنظر له، لكنني أمه. كل يوم كانت الكوابيس تزورني، وتدهورت حالتي الصحية، واضطررتُ إلى السفر إلى المدينة برفقة زوجي للاطمئنان على الجنين. عندها قالت لي الدكتورة بأن عليّ زيارة طبيب نفسي للتحدث معه. لم يكن زوجي موافقا على ذلك، إلا أنه كان ينتظر الطفل بفارغ الصبر، لذا وافق لأجل طفله. حينما ذهبت لطبيبة نفسية أخبرتني أنني مصابة باكتئاب مزمن، وعليّ أن أحسّن نفسيتي لأجل الطفل. عرفتُ منها أن هناك جمعية تهتم بالكفيفات وتقوم بتعليمهن والاهتمام بهن. أقنعتُ زوجي بزيارة الجمعية. كنت منذهلة حينما وصلت إلى هناك. شعرتُ للمرة الأولى أنني شخص عادي يستحق العيش والحياة. تمنيتُ لو أنني تعلّمت منذ صغري كما فعلت زميلاتي في الجمعية ونجحن وتفوقن، ولن أبقى حبيسة القرية والمنزل المليء بالتنمر والشعور بالنقص”.
•فقدان الثقة
لا يدرك المتنمّر ما الشعور الذي ينتاب ضحيته حينما يتنمّر، سواء بقصد كإطلاق الضحكات والسخرية، أم من دون قصد كالشفقة المبالغ بها. منيرة النمر اختصاصية نفسية تشرح شعور الكفيفات وما يعانين بسبب التنمر عليهن، إذ ينعكس ذلك سلبا على نفسيتهن، بفقدانهن لثقتهن بنفسهن، وانعزالهن عن المجتمع، وشعورهن بأنهن منبوذات، وأحيانا أخرى بتقمّصهن السلوك العدواني والهجومي للدفاع عن النفس عندما يشعرن بالإكتئاب والقهر وعدم الرغبة في الحياة نتيجة للتنمر والإقصاء المجتمعي لهن.
•نجاح وإرادة
دينا العبسي إحدى المسؤولات بجمعية أمان للكفيفات تقول: “الكفيفات يستطعن النجاح، وهناك نماذج لكفيفات يمنيات برزن في المجتمع مثل الأستاذة فاطمة العاقل التي كانت مثالا للمرأة المحاربة صاحبة الإرادة وإحدى مؤسّسات الجمعية، ومنهن الباحثة سِتر محمد الشوكاني، وهي أول كفيفة بمحافظة ذمار استطاعت الحصول على الماجستير تخصص علم نفس، ومن ذلك التفوق الذي حصدته سمية وأماني في الثانوية العامة، وحصولهما على المراكز الأولى على مستوى الجمهورية، وغيرهن من الكفيفات اللواتي كنّ مثالا للتحدي. كل تلك النماذج تؤكّد على أن الكفيفة قادرة على النجاح والإنجاز وتحقيق النفع للمجتمع، فعلى المجتمع الالتفات لهنّ ودعمهن وتشجيعهن وعدم النظر إليهن بقصور.
على الرغم من أن النصوص القانونية كفلت حقّ الكفيفات في فرص العمل والتعلم، لا توجد أي نصوص تهتم بالجانب النفسي للكفيف، لتجرّم التنمر وتضع له عقوبة؛ إذ تنصّ المادة رقم (18) في القانون رقم (61) لسنة 1999م على تخصيص نسبة 5 % من مجموع الوظائف الشاغرة بالجهاز الإداري للدولة ووحدات القطاعين العام والمختلط للمعاقين الحاصلين على شهادات تأهيل، بحسب المحامية عفاف أحمد.
•تنوير وإدماج
وداد البدوي، ناشطة حقوقية وإعلامية، ترى أن على المجتمع إعطاء الفرصة للكفيفات ودمجهن في المجتمع وتنويره لتحسين النظرة تجاههن وأن يُتعامل معهن بكل اعتزاز وفخر، ابتدأ من أسرهن وصولا للمجتمع، فهن يمتلكن الإرادة التي لا يمتلكها الأصحاء.
•أرقام مهولة
يصل عدد المكفوفين في اليمن إلى80 ألف كفيف وكفيفة، ويتوزّعون على الريف والمدن، ولا يستطيع جميعهم الحصول على الخدمات والتعليم؛ إذ تتوزّع تلك المراكز والجمعيات للكفيفات على خمس محافظات فقط (صنعاء، الحديدة، إب، سيئون، أبين)، بالرغم من وجود الملايين من الكفيفات في الريف، وتُعدّ الفاقدات لحاسة البصر أكثر من الكفيفين الذكور؛ إذ تصل نسبتهن 51%، بحسب جمال مهيوب مسؤول العلاقات بالجمعية اليمنية لرعاية وتأهيل المكفوفين، وبغياب إحصاءات لعدد الكفيفات القاطنات في الريف، تعجز الكاتبة عن رصد دقيق لعدد الكفيفات اللواتي يتعرضن للتنمّر والإقصاء من التعليم والحياة.
العدد المهول لعدد المكفوفين في اليمن يحتّم على القانون وضع آلية للتعامل معهم وضمان حقّهم النفسي، لحمايتهم من التنمّر، وجعلهم أفرادا فعّالين وأن يسعى المجتمع لاحتوائهم سواء في الريف أم المدن.