محاكم الأسرة في اليمن | الحقّ المفقود!
الممرّات ضيّقة و مزدحمة ومليئة بالمتقاضين من الجنسين، و المحامون والمحاميات يمرّون مُسرعين ليصلوا إلى قاعات الجلسات بين الزحام، وبينما هم يصعدون عند مدخل النيابة يقف بعض المتّهمين مقيّدي الأيدي، وهناك نساء برفقة أطفالهن يحاولن الصعود إلى قاعات المحكمة، وثمة صوت صراخ من أمام القسم الجنائي في الدور الثالث من المحكمة يقول: “ما الذي يجلب النساء إلى هنا؟! ما الذي يدفعكن إلى القدوم ومزاحمة الرجال والمتّهمين ومعهن الأطفال؟!”.
الساعة تقترب من العاشرة صباحا، القاعة التي يجلس القاضي الشخصي في منصتها للنظر في القضايا الشخصية في محكمة شمال الأمانة في صنعاء مليئة بالأطفال والنساء والرجال، القاضية تتوسط المنصة تنظر في القضايا واحدة تلو الأخرى، فقد كان عددها في جدول الجلسات في صباح الاثنين 2022/3/14 سبعة عشر قضية في قاعة واحدة بين طلاق ونفقة وحضانة وقسمة.
هذا ما ظهر لنا في أثناء وجودنا بالمحكمة، ورأينا مدى الأضرار النفسية والجسدية التي قد تتعرض لها النساء والأطفال عند القدوم للقسم الشخصي في المحكمة، التي تضم القسم الجنائي والنيابة أيضا بالمبنى نفسه في ظل غياب محكمة خاصة بالأسرة.
فسخ للكراهة
تقول غيداء أحمد (22 عاما) وهي واحدة من النساء اللواتي رفعن قضية فسخ للكراهة: “منذ ما يقارب أربعة أشهر، أحضر للمحكمة طالبة الفسخ، ولكن زوجي المدَّعى عليه لا يحضر جلسات المحكمة، رغم الإعلان أكثر من ثلاث مرات آخرها عبر الجريدة. في أثناء وجودي في المحكمة، رأيت كثيرا من الصعوبات، فالمحكمة مليئة بالرجال لأنها تضم أكثر من قسم في محكمة واحدة، لا نجد فرصة للعبور من الدرج المؤدّي لقاعات القسم الشخصي في الطابق العلوي من دون أن نتعرض لتصادم مع الرجال أو إلى لمسة أو حتى نظرة فاحصة أو كلمة مسيئة”.
ولكن هل كان ذلك فقط ما تتعرض له النساء في أروقة المحاكم من أضرار أو هناك صعوبات أخرى؟ هذا ما تجيب عنه سمية الأكحلي (27 عاما)، ولها قضية للمطالبة بحضانة طفل قائلة: “لماذا لا يُنظر في القضايا المتعلقة بالزوجين من طلاق وفسخ وخلع ونفقة وحضانة بالأهمية نفسها التي يوليها القضاء لقضايا الإرث والقسمة؟! لماذا يجب علينا أن ننتظر كثيرا حتى يُبتّ في قضايانا؟! أو ليس المتضرّر الأول من ذلك هم الأطفال، الذين يجدون أنفسهم في نزاع مستمر جراء عدم استقرارهم؟! كم أتمنى أن يكون هناك محكمة خاصة بقضايا الأسرة فقط، نستطيع فيها الحضور بمواعيد متقاربة و بجلسات معمّقة يستطيع القاضي فيها التوصل إلى حلول تضمن استمرار الأسرة بالمعروف أو إنهائها من دون أن يتعرض الأطفال لأي ضرر”.
نزاع دائم
من جهتها تقول بدرية علي (40 عاما) التي تنازلت عن أطفالها بعد تسع سنوات من الحضور إلى المحكمة: “تطلّقت عام 2013، ومنذ ذلك الحين أنا في نزاع دائم مع طليقي من أجل الحصول على نفقة الأطفال الثلاثة. تنازلت عنهم اليوم لأبيهم بعد عدم قدرتي على توفير حياة كريمة لهم، تعرّضت في هذه السنوات لعراقيل كثيرة، كان أكبرها بالنسبة لي الحضور إلى المحكمة بأطفالي، أمرّ بجانب مُجرمي القسم الجنائي ومن الازدحام الخانق أمام النيابة في الدور الثاني والثالث من المحكمة، كنتُ أستغرب كيف يُنظر في قضايا النساء والأطفال بالمحكمة نفسها التي تنظر فيها القضايا الجنائية”.
يفضل أن يكون هناك اختصاصيون اجتماعيون بجانب القضاة المختصين بالنظر في قضايا الأسرة في محاكم الأسرة، بل ينبغي أن يكون ذلك قبل الرجوع للقضاء، لكي توضع حلول تحفظ الأسرة قبل النزاع القانوني
تشعب قضايا الاسرة
ولمعرفة سبب غياب محاكم الأسرة في اليمن، توجّهنا إلى قضاة القسم الشخصي في الأمانة ومحافظة عدن، وقد أكّدت تهاني الوليد، وهي قاضية القسم الشخصي بمحكمة جنوب غرب الأمانة الابتدائية، أنه بات من الضرورة القصوى أن توجد محاكم خاصة بالأسرة، نظراً لتشعّب قضايا الأسرة ولكثرتها، والسبب الأهم لذلك مراعاة خصوصية النساء والجانب الإنساني المهم في قضايا الأسرة قائلة: “التشريع في البداية يجب أن ينظم قضايا الأحوال الشخصية بشكل عام، ثم يعمل على النظر في قضايا الأسرة بشكل خاص. وينبغي أن يكون التشريع في قانون الأحوال الشخصية وفي قانون المرافعات وفي قانون السلطة القضائية؛ لأنه سيكون هناك قوانين متفرعة؛ لأنّ الخلل لا يكمن فقط في غياب محاكم الأسرة، بل في التشريع أيضا، ولذلك لا بد أن يكون هناك نصوص قانونية تُلزم بإيجاد محاكم أسرة مثل بقية المحاكم المختصة”.
لإيجاد محاكم أسرة، سنكون بحاجة ماسّة إلى بنية تحتية وإمكانية مادية، لإنشاء هذا النوع من المحاكم المختصة في مناطق متعدّدة من الجمهورية اليمنية
وتضيف الوليد: “لإيجاد محاكم أسرة، سنكون بحاجة ماسّة إلى بنية تحتية وإمكانية مادية، لإنشاء هذا النوع من المحاكم المختصة في مناطق متعدّدة من الجمهورية اليمنية، كما يحدث عربيا ودوليا من وضع محاكم خاصة بالأسرة، تنظر في قضايا الأسرة فقط من دون أن تنظر في القضايا الأخرى، مثل القسمة والميراث، فتلك القضايا تخرج عن نظر هذا النوع من المحاكم المختصة، على الرغم من أن قانون الأحوال الشخصية تتضمنها، ولكن باعتبار قضايا الميراث والقسمة والتركات ذات جانب مدني وليست ذات جانب شخصي، باعتبار القانون المدني نظر بشأنها في نصوصه”.
وتشير الوليد لـ”دكة” بقولها: “يفضل أن يكون هناك اختصاصيون اجتماعيون بجانب القضاة المختصين بالنظر في قضايا الأسرة في محاكم الأسرة، بل ينبغي أن يكون ذلك قبل الرجوع للقضاء، لكي توضع حلول تحفظ الأسرة قبل النزاع القانوني، كما يفضّل أن توجد لجنة شؤون اجتماعية توفرها الدولة داخل محاكم الأسرة لتعمل على مساعدة المتضررين من النساء والأطفال والذين لا يستطيعون توفير نفقات التقاضي وأتعاب المحاماة”.
” كيان مهمش”
في تصريح لصلاح سيف، وهو قاضي شخصي بمحكمة الشيخ عثمان الابتدائية، لـ”دكة” قائلا: “صحيح أنه لا يوجد محاكم أسرة في اليمن، ولكن هناك محاكم خاصة بقضايا الأحوال الشخصية جميعها، من بينها قضايا الأسرة والزوجين، قُبيل الوحدة كان هناك قانون يُسمّى قانون الأسرة، إذ كان يركز على قضايا الأسرة، ولكن بعد عام 1990 صدر قانون الأحوال الشخصية الذي شمل كل المواضيع القانونية المتعلقة بالأسرة وغيرها من المواضيع كالميراث والقسمة والوصية.
ويؤكّد القاضي سيف لـ”دكة” بأن إنشاء محاكم خاصة بالأسرة في اليمن سيجد صعوبة كبيرة؛ فبعد إنشاء كثير من المحاكم المختصة، مثل محكمة الضرائب والمرور والأموال العامة، أصبح من الصعب إنشاء محكمة خاصة بالأسرة، خصوصا أن المحاكم المختصة تنظر في قضايا نوعية ومحدّدة، مثل المحكمة الجزائية المتخصصة، بينما قضايا الأسرة كبيرة وكثيرة ومتنوعة، إضافة إلى أن مسائل الأسرة في اليمن ما زالت تنظر عبر كتب الفقه وعبر الاستحداث المجتمعي للعادات والتقاليد الذي لم ينظمه قانون الأحوال الشخصية لتوسّعه”.
الفسخ يُعدّ أكثر أنواع القضايا الشخصية المنظورة في المحاكم، ومنه: الفسخ للكراهية والفسخ لعدم الإنفاق والفسخ للغياب، ويشكل الأخيران 90% تقريبا من القضايا المنظورة في المحاكم اليمنية، تليه قضايا الخلع والنفقة والحضانة، بينما تشكل قضايا الفسخ بسبب الإدمان 1%
من جانبها، أفادت المحامية رقيّة الأشعري أن السبب في غياب محاكم الأسرة يكمن في عدم الاهتمام بقضايا المرأة عموماً في اليمن؛ فالمرأة كيان يُهمّش، وما يؤكد ذلك أن هناك محاكم مختصة لقطاع التجارة، مثل المحكمة التجارية، ومحاكم أخرى متخصصة بقضايا العمال، مثل المحكمة العمالية مع غياب لمحاكم الأسرة، لكن هذا لا يمنع من محاولة إنشاء هذا النوع من المحاكم للضروره القصوى”.
الفسخ بسبب الإدمان
وتضيف الأشعري لـ”دكة” قائلة: “على الأرجح أن المشرّع لم يفصل في الأمر بعد، فإذا قُدّم طلب من أكثر من شخص في السلك القضائي أو حتى من المترافعين وأساتذة القانون إلى مجلس القضاء الأعلى عبر هيئة التفتيش القضائي لكي ينظر في أمر ضرورة إيجاد محاكم خاصة للأسرة، فإنه يترتب على ذلك تغييرات، وقد يوجد هذا النوع من المحاكم في اليمن، خصوصا أننا نعرف أن هناك كثيرا من النساء لا يقبل أهاليهن بذهابهن للمحكمة لوحدهن، وذلك بسبب ما قد يتعرضن له في أثناء وجودهن في المحكمة من اعتداءات نفسية ولفظية، وقد تصل إلى التحرش الجسدي ومن بينهن المحاميات”.
وتشير إحصاءات حصلت عليها “دكة” أن الفسخ يُعدّ أكثر أنواع القضايا الشخصية المنظورة في المحاكم، ومنه: الفسخ للكراهية والفسخ لعدم الإنفاق والفسخ للغياب، ويشكل الأخيران 90% تقريبا من القضايا المنظورة في المحاكم اليمنية، تليه قضايا الخلع والنفقة والحضانة، بينما تشكل قضايا الفسخ بسبب الإدمان 1%.