في مطلع عام 2014م انتهت رحلة جلب المياه للطفلة (هجينة عبده، 11 عامًا، بعزلة بني سعيد في مديرية الجعفرية) بوفاتها بعد أن انزلقت في إحدى خزانات المياه التجمعية في المنطقة أو “المعاقب” كما يسميه الأهالي بلهجتهم المحلية لتجد الأسرة مؤنستها جثة عالقة في الترسبات الطينية أسفل الخزان المائي.
النساء متأثرات بالإهمال ومؤثرات بالتنمية
بشكل متواصل وفي عموم مناطق ريمة النائية تتحمل المرأة عبء الإخفاقات الحكومية في جوانب التنمية منذ إعلان مناطق ريمة كمحافظة مستقلة بمديرياتها الست مطلع العام 2004م حتى الآن؛ فلا تكاد تنجو النساء والفتيات من الموت أو الإصابة أثناء التنقل في الطرق الوعرة بحثًا عن المياه في رؤوس الجبال والمرتفعات المؤدية إلى غيول المياه في إحدى أفقر المحافظات اليمنية وأشدها معاناة من قلة الخدمات حسب تقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في اليمن الذي أعلنها في وثيقة الاحتياجات الإنسانية لعام 2023م عقب أول زيارة رفيعة المستوى لمسؤولين في المكتب الأممي وعدد من المنظمات الأممية والدولية إلى محافظة ريمة مطلع أواخر أكتوبر من العام ذاته.
بين الحين والآخر تواجه العديد من النساء والفتيات في المحافظة الناشئة مصير مماثل لمصير الطفلة هجينة وباختلاف أشكال المعاناة التي ترهق عافيتهن أثناء التنقل في الطرقات الوعرة وجلب المياه إلا أن النتيجة في الغالب تنتهي “بالإصابة أو الموت” أثر الانزلاق من منحدر جبلي أو الغرق في أماكن تجمع المياه، وهو الأمر الذي جعل النساء يستشعرن الخطر ويسهمن بالذهب والمواشي والأموال في المبادرات الذاتية التي ينفذها الأهالي لتعبيد الطرقات وتنفيذ مشاريع أخرى تحقق الصالح العام للمناطق المحرومة منذ فترة طويلة ليتطور دورهن إيجابًا من ضحايا تأخر الخدمات إلى صانعات تنمية يسهمن في نمو مناطقهن.
شريان حياة بإسهامات نسوية
في اليوم الأول من شهر أكتوبر 2023م وبينما كان الأهالي في منطقة الجبوب التابعة لمديرية كسمة بمحافظة ريمة يفتتون الصخور الصلبة لتطويعها في خدمة الإنسان الذي لم تصله خدمات الدولة، ومن أجل إيجاد شريان للحياة يربط قرى: طريق الجبوب- جبل صالح سعيد- السهلة الذي يخدم أكثر من 11 ألف نسمة، أنفقت السبعينية فاطمة أحمد مسعد الجبل مبلغ 200 ألف ريال يمني ما يعادل (380 دولار أمريكي) لصالح المشروع المجتمعي الذي ينفذه الأهالي بجهود ذاتية ويخفف من عناء السكان في تنقل بين القرى والعزل ويربط هذه المناطق ببعضها البعض، بدت مبادرة الجبل محمودة من قبل المجتمع الذين يقولون إنها لم تكن البادرة الأولى فبحسب الأهالي فقد قدمت وما تزال تقدم إسهامات مضنية من أجل إنعاش حركة العمل التنموي المجتمعي وتؤثر مجتمعها كنموذج نسوي يحتذى به ومثل فاطمة الكثير ممن كأننا سند لأخوتهن الرجال في مهمتهم التنموية.
أم حافظ إبراهيم – ربة منزل (45 عام) إحدى نساء قرية بني القحوي وهي أيضا واحدة من بين العديد من التبرعات النساء لمشروع مماثل في مديرية الجعفرية يذهبن ومجوهراتهن لصالح مشروع شق طريق الحدية – بني الفحوي فقد تبرعت بخاتمها الذهب الذي يبلغ وزنه 4 جرام تقريبا من أجل بيعه والاستفادة من قيمته لتغطية بعض الأجور والمتطلبات الضرورية للعاملين في شق الطريق وعن دافعها من ذلك تجيب أم حافظ بقولها لـ “ريمة بوست”: “أن المتضرر الأكثر من انعدام طريق السيارات هي المرأة والطفل، إذ تفارق المرأة الحياة أحيانا لصعوبة نقلها إلى المستشفيات في المحافظات المجاورة بسبب عدم وجود وسيلة نقل، عدا عن “حملها على أكتاف الرجال”، وهي الوسيلة التي يتحاشاها الكثير من الرجل لنقل نسائهم وتضيف أن بناتها الأربع فضلن التبرع بقيمة كسوتهن العيدية للمشروع وهو أمر أشعرهن بالارتياح لأن يكونَّ جزءًا من الحل لواحدة من أكبر المشاكل التنموية التي تلقي بكاهلها على الجميع”.
تُعد محافظة ريمة حديثة النشأة ويسكنها قرابة 930562 نسمة، وأكثر من نصفهم نساء حسب النظرة العامة لوثيقة الاحتياجات الإنسانية التي تشمل النازحين أيضا مطلع عام 2011م الصادرة عن مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية وتم إعلانها محافظة مستقلة مطلع عام 2004م بعد أن كانت سابقا “مناطق ريمة “وتتبع محافظة صنعاء وعلى الرغم من أن هذا الإعلان ساعد في إيجاد الخدمات لكنها ليست بشكل كافٍ فما تزال العديد من المناطق نائية وبلا خدمات وهذا ما دفع الأهالي إلى تنفيذ مبادرات ذاتية بلغت قيمتها أكثر من 8 مليار ريال يمني حتى عام 2022م حسب وكالة الأنباء اليمنية سبأ.
وتجد النساء في منطقة بني القحوي جنوبي مديرية الجعفرية كغيرها من قرى المحافظة صعوبة التنقل إلى المراكز الطبية والمستشفيات في المديرية أو في مدينة بيت الفقيه التابعة لمحافظة الحديدة والتي تعد أقرب مكان تتوفر فيه مستشفيات تقدم الخدمات الطبية والعلاجية ويستصعب الأمر أيضا على المسنين المرضى والمواطنين الذين يغادرون إلى المدينة بغرض شراء المواد الاستهلاكية لكن تأثير وعورة هذه الطرقات أشد وطأة على النساء سيما الحوامل اللاتي يواجهن صعوبة المخاض وهي جملة من العوامل التي دعت الساكنين إلى تبني وتنفيذ مشروع شق طريق: “الحدية – بني القحوي ” بطول 6 كيلو والذي تم بشكل ذاتي عبر تبرعات قدمها الأهالي وبلغت مساهمة النساء من إجمالي هذه التبرعات ما يقارب 15 % حسب فارس غالب المسؤول المالي للمشروع الذي يبين في حديثة لـ “ريمة بوست” أن مساهمات النساء وصلت إلى 16 قطعة ذهب متنوعة الأشكال والأنواع بالإضافة إلى مبالغ مالية يصل إجمالي هذه المبالغ مع قطع الذهب المقدمة من النساء إلى ثلاثة مليون ريال يمني (5640 $ دولار أمريكي) حتى يونيو 2022.
سقايات مياه أنشأتها امرأة
حصول السكان على مياه الشرب النظيفة في قرية الجبل بمديرية كسمة وما جاورها أمرٌ يحتاج إليه أغلب السكان ويعانون الأمرين من أجل الحصول عليه خصوصًا مع تباعد المسافات في هذه المناطق النائية إلا أن دور السبعينية فاطمة الجبل كانت واحدة من أبرز الإسهامات النسوية لتوفير احتياجات المجتمع من الماء، تعمل الجبل مربية مواشٍ وأغنام وتقضي حياتها بين الحقول وأماكن الرعي تحت شدة الشمس القارسة ورغم ما تلاقيه من معاناة في عملها إلا أنها تستشعر المسؤولية أمام مجتمعها الريفي فقد قامت ببناء سقايات للمياه على نفقتها الخاصة في قرى الكافية، المربض، الأبلي، البركة في عزلة الجبل بمديرية كسمة والذي بدأت بها منذ عام 2018م، خصوصًا مع تدفق النازحين من عدة مناطق بسبب الحرب وزيادة حاجة الناس للمياه، تقول الجبل لـ “ريمة بوست”: أنها تبتغي الأجر من الله وتأمل أن تكون مصدر نفع للناس سيما في هذا الظرف التي تمر به اليمن، ولم تنكر مساهمات وحدثتنا في سقايات المياه فقد أنشأت أحواضًا مائيةً للمواشي والأبقار يستفيد منها الرعاة لإرواء مواشيهم أثناء مهمة الرعي كون الأخيرة تمثل مصدر دخل لبعض الأهالي في المنطقة.
وتلعب النساء في ريمة خاصة واليمن عامة دورًا نموذجيًّا في صناعة السلام في مجتمعاتهن بالاعتماد على استراتيجيات ذاتية لإنعاش المجتمعات المحلية وتعزيز الاستقرار المعيشي من اجل الصمود والتعافي قدر الإمكان فقد أثبتت تجارب النساء نجاحهن في مؤازرة مجتمعاتهن وتتشارك المسؤولية فيما يهم الصالح العام رغم ظروفهن المادية المتردية وتضائل فرص تمكينهن من فرص العمل.
تم إنتاج هذه المادة بدعم من مشروع غرفة أخبار الجندر الذي تنفذه مؤسسة ساك ميديا للإعلام والتنمية