تأملات في إسهامات نساء اليمن في عهد الدولة الرسولية
“لطالما كانت اليمن مكاناً يحج إليه العلماء من كافة أنحاء العالم الإسلامي، يقودنا إلى قول ذلك ما رُوي عن عن كثير من العلماء الذين شدوا رحالهم إلى اليمن. يكفينا في بداية هذا المقال أن نذكر الإمام اللغوي مجد الدين الفيروز أبادي (817 هـ) الذي سافر إلى مدينة زبيد، وقام بمهام التدريس فيها. وفي زبيد -نفسها- ألَّف قاموسه الشهير (القاموس المحيط)، وبها استقر حتى مماته. لكن يبقى السؤال: لماذا اختار مدينة زبيد من بين جميع المدن اليمنية؟
في الحقيقة، لم يكن اختيار الإمام اللغوي مجد الدين الفيروز أبادي لمدينة زبيد من قيبل الحظ أو المصادفة، كل ما في الأمر أن هذه المدينة كانت -آنذاك- تحت حكم الأشرف عمر بن يوسف ، ثالث ملوك الدولة الرسولية في اليمن، والذي حكم من 1295م وحتى 1296م. وكان العهد عهد نهضة علمية لكلا الجنسين، إذ يقودنا الحديث عن الدولة الرسولية -دون شك- إلى تاريخ نساء الدولة الرسولية، وكفى بهذا الشيء من عظمة وفخر.
يقول إسماعيل بن علي الأكوع، في كتابه الموسوم (المدارس الإسلامية في اليمن): “وقد كان عصر بني رسول أخصب عصور اليمن، وأكثرها ازدهاراً بالعلم، لاهتمام بني رسول بنشر العلم ورفع مكانة العلماء عندهم وتكريمهم وفتح أبواب قصورهم لهم في أي وقت شاءوا. مما جعل كثيراً من العلماء يولون وجوههم شطر مدينة تعز، حاضرة الدولة الرسولية”. ومع الدولة الرسولية بلغت ثقافة بناء المدارس العلمية في اليمن أوجها؛ ذلك أن ملوك الدولة الرسولية و الأمراء و الأميرات و الوزراء، اهتموا وتنافسوا في بناء المدارس العلمية ووقف الأموال عليها.” على أن دور النساء الرسوليات لم يقتصر على المشاركة في الحكم بالرأي والمشورة فحسب، بل امتد حتى شمل إسهامات في مجال التعليم.
ويذكر الكاتب علي بن حسن الخزرجي، في كتابه الموسوم (العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية) “أشرفت الأميرات الرسوليات على المدارس إشرافاً كاملاً، وكن يتابعن بأنفسهن التدريس و اختيار المعلمين وكان أزاوجهن من الملوك و الأمراء، و الذين كانوا في معظم الوقت أيضا من العلماء ذوي المؤلفات في مجالات عدة، كالنحو والأدب، والفقه، والتاريخ والمعاجم ، يعينونهن على ذلك. فقد استدعى الملك المظفر الرسولي بطلب من زوجته العلامة محمد الشرعبي (ت 702 هـ) ليكون مدرسا في المدرسة السابقية التي بنتها زوجته في زبيد فوافق شريطة أن يكون ابنه خلفاً له في القضاء فوافق المظفر ليضمن تطبيق رؤية زوجته في شأن التعليم في المدرسة”.
ولطالما تفوقت الأميرات الرسوليات على الملوك الرسوليين من ناحية عدد المدارس التي قمن ببنائها، فقد بلغت عدد المدارس التي انشأتها الأميرات أربعة وثلاثون مدرسة، مقابل عشرين مدرسة أنشأها الملوك، وقد أنفقن من حر مالهن بسخاء على بناء المساجد والمدارس العلمية وأربطة العلم والأسبلة والخانقات، وملحقاتهن من مكتبات ودور للطلبة وعلى العلماء والفقهاء والمشائخ وطلبة العلم، وعلى اقتناء الكتب ونسخها. ليس فقط في تعز عاصمة الرسوليين الصيفية و زبيد عاصمتهم الشتوية بل في إب وجبلة وبعض القرى التي كانت تمثل مراكز علمية في ذلك العصر.
مما تقدَّم، يظهر لنا إلى أي مدًى أسهمت النساء في عهد الدولة الرسولية باليمن في إحداث نهضة علمية من خلال بناء المساجد والمدارس العلمية وأربطة العلم والأسبلة والخانقات، وملحقاتهن من مكتبات ودور للطلبة وعلى العلماء والفقهاء والمشائخ وطلبة العلم، وعلى اقتناء الكتب ونسخها، في إسهامات تؤكد -بما لا يدع مجالًا للشك- دور المرأة اليمنية في بناء مجتمع المعرفة.